ملفات

الآلاف غادروا تونس… الكفاءات وهاجس الرحيل

“هاجر”… “دواها هجّة من ها البلاد”… “وافق أو نافق أو غادر البلاد”…”موش لاقين قدرنا في بلادنا”، شعارات يرفعها الآلاف من التونسيين بين راكبي الأمواج “إما حياة أو موتا” نحو أوروبا أو أصحاب الشهائد العلمية الذين قرروا المغادرة نظاميا لتحقيق أحلامهم خاصّة مع تعكر الأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس.

ذلك أنّ 2710 من الكفاءات هاجروا خلال 9 أشهر (من غرّة جانفي إلى 30 سبتمبر 2022) حسب إحصائيات الوكالة التونسيّة للتعاون الفنّي مقابل 1593 خلال نفس الفترة من سنة 2021 بنسبة تطوّر تقدّر ب 70 بالمائة.

وذكر المرصد الوطني للهجرة أنّ 39000 مهندسا و3300 طبيب غادروا البلاد بين 2015 و2020 من أجل فرص عمل بالخارج.

إذا، باتت الهجرة رغبة جامحة تخامر أصحاب الكفاءة والشهادات العليا والمختصّين، فما هي أهمّ وجهاتهم؟ والأسباب التي تدفعهم إلى ذلك والمسالك التي يختارونها كبوابة نحو الخارج؟ وما مدى سلامة هذه المسالك؟

مسالك الهجرة

“يعتبر مهاجرا حاليا كل شخص تونسي الجنسية بلغ من العمر 15 سنة فما فوق، كان قد أقام بتونس ويقيم حاليا في الخارج لمدة تتجاوز ثلاث أشهر”، وفق تعريف المرصد الوطني للهجرة.

المقالات المتصلة

وحسب المسح الوطني للهجرة الدولية الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع المرصد الوطني للهجرة ودعم المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة، فإنّ عدد المهاجرين التونسيين الحاليين يقدّر بنحو 566 ألف شخص من بينهم (388 ألف من الرجال و178 ألف من النساء)، يُقيم أغلبهم بكلّ من فرنسا وإيطاليا وألمانيا بنحو ثلاثة أرباع العدد المذكور أنفا، ينتمون إلى كلّ من أقاليم الشمال الشرقي وتونس الكبرى والوسط الشرقي.

وتشهد مطالب تأشيرات السّفر للخارج ارتفاعا كبيرا، فعلى سبيل المثال التونسيون هم رابع جنسية يُصدر إليها أكبر عدد من التأشيرات لفرنسا هذه السنة، حسب بيان للسفارة الفرنسيّة بتونس، فمن شهر جانفي إلى حدود شهر ماي 2022، “تمت معالجة أكثر من 50000 طلب تأشيرة، أي أكثر من 500 طلب في اليوم، وهو ما يعني ضعف عدد الطلبات في 2020 و2021 “وقد تم إصدار 30000 تأشيرة في الأشهر الخمس الأولى من السنة بزيادة في عدد الطلبات التي تجاوزت 77 بالمائة في العام الواحد”، وفق البيان ذاته.

أما عدد المهاجرين في العالم فقدر بنحو 281 مليون نسمة أي ما يعادل 3,6 بالمائة من سكان العالم سنة 2020، حيث كان 272 مليون شخص سنة 2019 حسب تقرير الهجرة العالميّة الصادر سنة 2019 بزيادة نحو 51 مليون شخص مقارنة بسنة 2010.

تطور عدد المنتدبين بالخارج خلال 5 سنوات

وتشرف الهياكل التابعة لوزارة التشغيل والتكوين المهني كالوكالة التونسية للتشغيل والعمل المستقل وأيضا الوكالة التونسية للتعاون الفني وديوان التونسيين بالخارج على ملفات هجرة الكفاءات وفي الآن نفسه هناك هياكل خاصّة وهي التي حددتها وزارة التشغيل والتكوين المهني على صفحتها الرسمية في قائمة رسميّة تضمّ 46 مؤسسة وقع سحب التراخيص من 11 مؤسسة من بينها.

وحسب ما ورد بالموقع الرسمي للوزارة فإنّ الإطار القانوني الذي ينظّم الهجرة هو القانون عدد 49 لسنة 2010 مؤرخ في 1 نوفمبر 2010 والمتعلّق بإتمام القانون عدد 75 لسنة 1985 المؤرخ في 20 جويلية 1985 والمتعلق بالنظام المنطبق على أعوان التعاون الفني، والأمر عدد 2948 لسنة 2010 مؤرخ في 9 نوفمبر 2010 المتعلّق بضبط شروط وصيغ وإجراءات منح ترخيص تعاطي مؤسسات خاصة لأنشطة في مجال التوظيف بالخارج.

والأمر عدد 456 لسنة 2011 مؤرخ في 30 أفريل 2011 يتعلق بتنقيح الأمر عدد 2948 لسنة 2010 المؤرخ في 9 نوفمبر 2010 والمتعلق بضبط شروط وصيغ وإجراءات منح ترخيص تعاطي مؤسسات خاصة لأنشطة في مجال التوظيف بالخارج.    وقرار وزير المالية ووزير التكوين المهني والتشغيل مؤرخ في 2 ديسمبر 2010 المتعلّق بضبط مقدار الضمان البنكي لأول طلب المستوجب من المؤسسات الخاصة لاستكشاف فرص التوظيف بالخارج.

ويحاول القانون التونسي حماية المهاجرين من الكفاءات قدر الإمكان، لكن عمليات التحيّل موجودة حيث يفيد الباحث في سوسيولوجيا الهجرة الأكاديمي مبروك التبيني القاطن بالمملكة العربية السعوديّة منذ 14 سنة، أنه حسب معايشته لعديد الحالات في بحثه فإنّ “المسلك الرسمي لانتداب الكفاءات التونسية هو الوكالة التونسية للتعاون الفني لكن من المؤسف وجود كفاءات علمية تهاجر عن طريق الشركات الخاصة وهي تضم شركات استغلالية وأحيانا متحيلة، أيضا وزارة التشغيل مخولة للتمكين من هجرة الأدمغة بصفة قانونية لتضمن حقوق المهاجرين الكفاءات في الخارج ثم عند العودة إلى أرض الوطن”.

ويؤكد محدّثنا أنّ “العروض الخاصة متوفرة وهي استغلالية ومن بينها المتحيلة ولا تمت للواقع بصلة، والاستقدام يكون بعقود استغلالية منها الالتزام براتب كامل لصالح الشركة وراتب للمصاريف وراتبين لمستلزمات الاستقرار، وقد يجد المهاجر نفسه مدانا في آخر السنة، فليس كل ما تقوله هذه الشركات موجود في المهجر بل إنّ أغلبه غير صحيح مثل ظروف السكن والعيش التي تكون متعبة في عديد الحالات ولا يسمح العقد بالانسحاب إلا عند إتمام السنة أو السنتين أو تقديم التعويضات”.

وفي هذا الصدد، تواصلت “ضاد بوست” عديد المرّات بوزارة التشغيل والتكوين المهني لرفع اللبس عن عديد النقاط المهمة في ملف هجرة الكفاءات التونسيّة، خاصة في ما يهمّ تعرّضهم إلى التحيّل من طرف الشركات غير المرخّص لها وكيفية التعامل معها ومحاسبتها قانونيا، لكن لم نجد إلا المماطلة وعدم الردّ على الهاتف رغم اتصالاتنا المتكرّرة بعد تظليلنا في عديد المناسبات.

رغبات الهجرة

39.5 بالمائة من الفئة العمريّة بين 15 و29 سنة و21.8 بالمائة من الفئة العمريّة ما بين 30 و39 سنة هم الأكثر رغبة في الهجرة حسب نتائج المسح الوطني للهجرة الدولية الذي صدرت نتائجه أواخر سنة 2021، وإنّ أصحاب الكفاءة واليد العاملة المختصة الأكثر إقبالا على الهجرة بنسبة 32.5 بالمائة إذ تتصدّر قائمة الطلبات على الهجرة يليها أصحاب المستوى الجامعي بنسبة 29.5 بالمائة.

ويرغب سكان تونس الكبرى في الهجرة أكثر من سكان بقيّة المناطق بنسبة26.1 بالمائة من جملة العينة المستجوبة في المسح تليها كلّ من منطقتي الوسط الشرقي والجنوب الشرقي بنسبة 22.9 بالمائة.

الراغبون في الهجرة حسب السن والمستوى التعليمي والجهات

وتسيطر فكرة الهجرة على عقول فئة الشباب والمراهقين مبررين ذلك بضبابية نظرتهم إلى المستقبل في تونس، بينما الأكثر إقبالا على طلبات الهجرة هم الكفاءات المختصّة وأصحاب المستويات الجامعيّة لأنّ مؤهلاتهم تخوّل لهم الحصول على موطن شغل يتلاءم وكفاءتهم الدراسيّة في الخارج خاصّة على المستوى المادّي، خاصّة أنّ طرق باب الهجرة بطرق شرعيّة يمرّ عبر بوابة الامتيازات العلميّة والكفاءات والمؤهلات وهي امتيازات تخلق الفارق بين الراغبين في الهجرة.

وقد أظهرت أرقام المعهد الوطني للإحصاء أن نسبة البطالة بين حاملي الشهائد العليا ارتفعت لتصل إلى 24.3% خلال الثلاثي الثالث من سنة 2022، مقابل 22.8% خلال الثلاثي الثاني من السنة ذاتها، وتقدر هذه النسبة لدى الذكور بـ 15.2% مقابل 32.0% في صفوف الإناث.

في المقابل، بينت معطيات معهد الإحصاء حول مؤشرات التشغيل والبطالة للثلاثي الثالث من سنة 2022 وجود استقرار في نسبة البطالة في حدود 15.3% حيث قدر عدد العاطلين عن العمل في هذا الثلاثي بنحو 613.6 ألف مقابل 626.1 ألف في الثلاثي الثاني من العام نفسه أي بانخفاض قدره 12.5 ألفا.

ورغم أنّ جهات تونس الكبرى استحوذت على طليعة ترتيب نسب المهاجرين إلى الخارج إلاّ أنّ المناطق الداخليّة وتحديدا الوسط في طريقها نحو تسجيل تخمة في طلبات السفر إذ سجّلت طلبات الحصول على جواز سفر خاصّة في عدد من المناطق من ولايات الجمهوريّة طفرة كبيرة على غرار ولاية القيروان بنسبة 500 بالمائة أي بمعدّل أكثر من 2900 مطلبا سنة 2022.

وإنّ المهاجرين التونسيين الذين غادروا قصد البحث عن ظروف ملائمة للعمل تناسب مؤهلاتهم المهنيّة ينتمون إلى عديد الاختصاصات التي تتطلبها سوق الشغل الأجنبيّة وقد حددتها الوكالة التونسيّة للتعاون الفنّي في أحدث إحصاءاتها في الفترة الممتدة بين غرة جانفي و30 سبتمبر 2022، فتصدر قطاع الصحة القائمة بـ 887 إطارا طبي وشبه طبي أي ما يعادل 33 % من مجموع الانتدابات، والتربية والتعليم في المرتبة الثانية بـ 713 منتدبا ثم قطاع الهندسة بـ 419 منتدبا وقطاع الإعلاميّة في المرتبة الرابعة بـ 221 منتدبا.

وذكر المرصد الوطني للهجرة أنّ 39000 مهندسا و3300 طبيب غادروا البلاد بين سنوات 2015 و2020 من أجل فرص عمل بالخارج، وهي فترة شهدت طفرة في هجرة الكفاءات والأدمغة خاصّة الاختصاصات المميزة كالهندسة والطب، كما أنّ 55.5 بالمائة من المهاجرين الحاليين صرحوا أنهم يزاولون نشاط مهنيا في بلد المهجر من بينهم (68.1 بالمائة من بين رجال مقابل 28.2 بالمائة من بين النساء).

وتنفرد الاختصاصات الطبيّة والهندسيّة بطليعة الانتدابيات في الخارج نظرا إلى تميّز الكفاءات التونسيّة في هذا المجال والاعتراف بقدراتها على المستوى الدولي ونجاحاتها، وقد ارتفع منسوب هجرة هؤلاء في العقود الأخيرة نظرا إلى محدودية الاعترافات الماديّة بجودتهم في الداخل وحصولهم على الامتيازات التي يرجونها في الخارج وهو ما يجعلنا نتحدّث عن هجرة الأدمغة واستيطانها في الخارج دون أن تستفيد البلاد من جودتها.

دول الاستقطاب

استقبلت البلدان العربية 1137 منتدبا بنسبة 42 % من المجموع العام ثم البلدان الأوروبية 942 منتدبا والبلدان الأمريكية والآسيوية 483 منتدبا ثمّ البلدان الإفريقية 93 منتدبا، وتعاقدت المملكة العربية السعودية مع 388 كفاءة تونسيّة (من 1 جانفي إلى 3 سبتمبر 2022) حسب الوكالة التونسية للتعاون الفني، وينتمي المهاجرون إلى المجال الصحي والتعليم والرياضة.

وانتدبت سلطنة عمان 349 إطارا في القطاعين شبه الصحي والتعليم الثانوي، وإجمالا استقطبت الدول الخليجيّة خلال السنوات الأخيرة نسبة هامّة من الكفاءات التونسيّة فأصبحت هذه السوق التشغيليّة وجهة عديد التونسيين الباحثين عن شغل حيث استقبلت 1008 من بين 1137 منتدبا في الدول العربية من الإطارات التونسيّة، بينما تمثّل السوق الإفريقيّة مصدرا جديدا لاستقطاب الكفاءات التونسيّة بتلقيها 93 منتدبا في نفس الفترة.

الانتدابات التونسية بالخارج حسب الاختصاص (سنة 2022)

وتمثّل السوق الخليجيّة وجهة جديدة للتونسيين من أصحاب الكفاءات بالمقارنة مع السوق الأوروبيّة والسّوق الأمريكيّة وقد شهدت هجرة عديد الكفاءات نظرا إلى توفّر الامتيازات المادّية التي يرغبون فيها وللقرب الجغرافي مقارنة ببقية الدول بالإضافة إلى القرب الفكري والعقائدي.

وتتصدر كندا المركز الأول من مجموع البلدان المنتدبة للكفاءات التونسية (من 1 جانفي إلى 30 سبتمبر 2022)، حيث تم التعاقد مع 443 تونسيا في مجموعة من الاختصاصات كالمجال شبه الطبي والتعليم والخدمات والمهن والإعلامية والاتصال من بين 2710 منتدبا، حسب الوكالة التونسيّة للتعاون الفنّي.

وانتدبت فرنسا نسبة هامّة من الكفاءات بـ 422 منتدبا، في اختصاصات الإعلاميّة وطب الاختصاص، كما انتدبت ألمانيا 317 من الكفاءات في عديد الاختصاصات أهمها الاختصاصات شبه الطبيّة، ومن المتوقّع أن تحافظ الولايات المتحدة على المراتب الأولى في استقطاب اليد العاملة التونسيّة حيث أعلنت سفارة الولايات المتحدة بتونس عن فتح باب التسجيل للهجرة في برنامج تأشيرة الهجرة المتنوعة بداية حتى يوم 8 نوفمبر 2022.

وتتميّز السوق الأجنبيّة بجملة من الضمانات التي تجعل الكفاءات التونسية تلتحق بها، فعلى سبيل الذكر كشف ديوان التونسيين بالخارج، في بلاغ له، توجه البرلمان الألماني إلى المصادقة على برنامج إصلاح شامل لسياسة الهجرة بما يمكن منح أكثر من 100 ألف أجنبي وثائق للعمل والإقامة ووقع إعداد قائمة بمهن تخوّل الحصول على تأشيرة البحث عن عمل من بينها “البرمجيات والهندسة المعمارية والهندسة المدنية والهندسة الالكترونية والكهرباء والتمريض والمهن المتعلقة بتكنولوجيات المعلومات وإدارة الأعمال والمحاسبة والمبيعات والطب وطب الأسنان والمحاماة”.

وجهات هجرة الكفاءات التونسية

دواعي الهجرة

تتميز الكفاءات العلمية التونسية إلى غاية سنة 2011، بأنّها مرموقة الوصف من حيث الكفاءة والخبرة والمهارة في الخارج، وهي باهضة في مستوى المقابل المادي (الرواتب والعقود) بيما الآن انخفضت قيمة عقود الكفاءات التونسية، على حدّ تعبير مبروك التبيني الباحث الأكاديمي في سوسيولوجيا الهجرة في حديث خصّ به “ضاد بوست”.

واستدرك التبيني قائلا “لكن أصبحت الصورة مهتزة بعد سنة 2011 بسبب كثرة العرض، نظرا إلى تزايد نسب الهجرة بشكل ملفت فاق المائة بالمائة، مما خفض من قيمة الرواتب إلى جانب تدخل الشركات الخاصة على الخط، فهناك شركات تشتغل في هذا المجال تستقدم الكفاءات التونسية واليد العاملة وهي شركات معروفة انطلقت في استقدام خريجي الجامعات وليست الكفاءات وليس أصحاب الخبرة والمهارة وهي مسألة تمس بصورة الكفاءة العلمية في الخارج”.

واعتبر محدثنا أنّ “الكفاءات العلمية التونسية بالخارج كانت في وقت مضى معروفة بالانضباط وجدية العمل ومطلوبة جدا في السوق الخليجية والأوروبية من خريجي نهاية التسعينات والثمانينات والألفية الأولى إلى أواخر سنة 2011 حين كانت الجامعات التونسية تتبوأ المكانة الأولى بين الجامعات العربية ومراتب متقدمة في العالم بينما أصبحت اليوم في المراتب الأخيرة إذ تتأرجح بين المرتبة 1000 و1500 بمعدل 7 جامعات فقط وهو ما يمس من صورة الكفاءة العلمية في الخارج، بينما 7 جامعات سعودية ترتيبها الآن بين 250 و500 كأفضل جامعة في العالم”.

صورة الكفاءات التونسية بالخارج اهتزت

مبروك التبيني

وقد قام الباحث الأكاديمي في سوسيولوجيا الهجرة، المقيم بالمملكة العربية السعوديّة مبروك التبيني، بدراسة الظاهرة دراسة سوسيولوجية وانتروبولوجية ميدانية في المملكة تحت عنوان “هجرة الكفاءات العلميّة التونسيّة وآثارها الاجتماعية والثقافيّة والتنمويّة، خصّ “ضاد بوست” بجزء من نتائجها، وقد شملت الدراسة سنوات ما بين 2018 و2021 حول مجتمع دراسة يفوق 30 ألف تونسي مهاجر بالسعودية تشمل الفئات الثلاث وهي (الأساتذة الجامعيين والأطباء والمهندسين) الفئات الأكثر هجرة من تونس حيث كان عددهم 2358 كفاءة علمية يتوزعون على 1782 أستاذ جامعي و409 طبيب و 167 مهندس، حسب ما أفادته به الوكالة التونسية للتعاون الفني وتعود عوامل هجرة الكفاءات التونسية إلى 3 عوامل رئيسيّة تفسرها نظرية الدفع والجذب للهجرة والمرتبطة بسياقات وخصائص المجتمعين الطارد والمستقبل.

وهذه العوامل الثلاث هي عوامل داخلية طاردة مشتركة وعوامل شخصية طاردة محددة وعوامل خارجية جاذبة وهي عوامل تتحكم في هجرة الكفاءات التونسية، ومن خلال الاستبيان الذي قام به الباحث الأكاديمي الدكتور التبيني في بحثه ودليل المقابلة الذي أجراه على المستجوبين تبين أن الدوافع الاقتصادية بالذات العامل المادي الطارد يحتل طليعة العوامل المساهمة في هجرة هذه الكفاءات التونسية بنسبة 94 بالمائة من جملة المستجوبين، وذلك بسبب تدني مستوى عيش هذه الطبقة ومؤشر زيادة الأسعار وتدهور القدرة الشرائية والتضخم المالي، ودعم هذا الكلام الأمين العام لمجلس نقابة الأطباء بتونس حيث أكد تدني راتب الطبيب التونسي مقارنة بنظرائه في البلدان الأوروبية حيث لا يتجاوز راتب رئيس الخدمة الصحية في تونس 3200 دينار تونسي بينما يتقاضى الطبيب المتخصص الأجنبي متوسط راتب قدره 2500 أورو أي ما يقارب 7200 دينار تونسي.

العامل الاجتماعي سبب هامّ لهجرة الأدمغة وقد مثّل 30 بالمائة من جملة المستجوبين بسبب ظاهرة بطالة حاملي الشهادات العليا حيث بلغت نسبتها ما بين 28 و30 بالمائة بين سنوات 2015 و2020 كما أن ما يفوق 5 آلاف حامل لشهادة الدكتوراه في تونس عاطل عن العمل. وفي المرتبة الثالثة العوامل الإدارية بنسبة 38 بالمائة من عينة البحث بسبب عدم اعتماد معايير موضوعية في التوظيف وفي الترقية وغلبة الطابع البيروقراطي الإداري في تونس وسوء ظروف العمل.

ومثّلت العوامل العلمية نسبة 24 بالمائة وعدم استيعاب الاختصاص بنسبة 7.4 بالمائة وعدم الحرية الأكاديمية للكفاءات في بحوثهم العلمية بنسبة تقارب 5 بالمائة، وضعف الميزانية المرصودة من طرف الدولة هو سبب ضعف البحث العلمي والمختبرات رغم تطوره من 90 مليون دينار سنة 2018 إلى 135 مليون دينار سنة 2021، وإذا قارناها ببعض البلدان العربية نرى أنه في السعودية في آخر إحصائيات لها تخصص 93 بالمائة من ميزانية الناتج الوطني للبحث العلمي تساهم فيه الجامعات السعودية، و بذلك ارتفع معدل نشر البحوث العلمية سنة 2021 في السعودية إلى 104 بالمائة وتحسنت جودة الأبحاث المنشورة في السجلات المصنفة علميا وزيادة عدد الباحثين الناشئين، وفق التبيني.

العوامل السياسية خاصة خلال 11 سنة الأخيرة ساهمت في الهجرة وأيضا العوامل الأمنية بسبب عديد العمليات الإرهابية والاغتيالات العوامل الشخصية المحددة نتيجة الظروف الشخصية النفسية والعائلية، على حدّ تعبير الدكتور التبيني بالإضافة إلى العوامل الخارجية الجاذبة نتيجة الحوافز والإغراءات المادية من طرف الدول الغنية والمتقدمة والأجهزة والمختبرات، ممّا يجعلها تستقطب الكفاءات العلمية والأدمغة، بالإضافة إلى احترام الكفاءات والتّخصصّات.

كذلك، العامل العقائدي بالقدرة على أداء مناسك الحج والعمرة، وتوفر متطلبات البحث العلمي وعامل جودة النظام التعليمي والبحثي بالإضافة إلى العامل الثقافي والاجتماعي بسبب الاضطرابات الثقافية والأخلاقية لذلك يفضل عدد هامّ من الكفاءات التونسيّة الهجرة للدول الأكثر هدوء.

تونس فيها العديد من العوامل الطاردة لكفاءاتها

مبروك التبيني

وقد تواصلت “ضاد بوست”، مع المهاجرة “س” 39 سنة، التي قالت “أنا خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار جامعة منوبة، قررت العمل بالخارج نظرا إلى الوضعية الهشة للصحفيين، فلا عقود ولا تأمين صحي”، موضحة “العمر يتقدم، يجب إيجاد حلول مستقبلية والاستقرار الوظيفي دون الشعور بتهديد بالطرد في كلّ لحظة”.

وأكّدت “س” أنّ الالتزامات المادية هي السبب الأول للتفكير في الخروج من تونس، فكانت هجرتها عن طريق إحدى الشركات الخاصة والعمل في اختصاص بعيد عن الصحافة عموما وهو تخصص إداري بالأساس.

وتقول “س”: “أعمل بالمملكة العربية السعودية منذ 4 سنوات وذلك بعد تجربة صعبة مع مؤسسة إعلامية معروفة، قمت بتغيير طريقي نحو الأفضل من خلال هذه التجربة، عقود العمل كانت واضحة وعن طريق وكلاء معتمدين في سفارة المملكة العربية السعودية لذلك لم أتعرض لعملية تحيل لأن التعامل كان مباشرا بين جميع الأطراف”.

العقود الهشة دفعتني إلى الهجرة

المهاجرة س.

إيمان، 25 سنة هي خريجة المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس قررت مغادرة تونس نحو فرنسا منذ سنة 2016 لمواصلة دراستها، حيث التحقت بزوجها وهو خريج المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس ومتخصص في مجال الهندسة المعلوماتية.

تقول إيمان “الفن في المجتمع الغربي لديه قيمة أكبر ويمكن العمل في هذا المجال إلاّ أنني قررت التوجه إلى مجال التدريس، قبل مغادرة تونس أرسلت مطالب للتشغيل في موقع campus France، وكنت محظوظة وتم قبولي في 3 جامعات، المراحل كانت مطولة نوعا ما واجتزت اختبارات في الكفاءة باللغة الفرنسية، وعند قبولي، طلبت تأشيرة طويلة المدى وهاجرت”.

وتابعت “مسألة عودتي إلى تونس كانت محتملة في السنوات الفارطة لكن بعد أزمة فيروس كورونا قررنا أنا وزوجي الاستقرار في فرنسا، لست أخشى مصاعب الحياة في تونس لكن لدي أطفال وتعليمهم هو الأساس بالنسبة إلي، وبما أن الوضع التعليمي في بلادنا ومناهجه ضعيفة جدا قررت المكوث هنا لأضمن لأبنائي تعليما في ظروف أفضل”.

أريد ضمان ظروف تعليم أفضل لأبنائي بالخارج

المهاجرة إيمان

من جانبه، اعتبر المختص في علم الاجتماع الطيب الطويلي في حديث لـ “ضاد بوست”، أنّ “هجرة الكفاءات ليست ظاهرة جديدة كما أنها ليست مقتصرة على تونس، إذ ورد في آخر تقرير لمؤسسة الفكر العربي أن نحو مائة ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي: لبنان وسورية والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، كما أن 70 بالمائة من الكفاءات الذين يسافرون لا يعودون إلى بلدانهم، وجاء في التقرير أن دوافع هجرة هؤلاء تعود إلى المعاناة من مظاهر التخلف، ومن التدني الكبير في مستوى الدخل، وثانيا جمود المؤسّسات البحثية العربية القادرة على احتواء مثل هذه الطاقات، وفشلها في توفير الجوّ العلمي الملائم لها والاستفادة من قدراتها العلمية”.

“أما الكفاءات التونسية فأصبحت تسارع إلى الهجرة وتبحث عن مسارب لها، من أجل تحسين الوضعية المادية، والوضعيات الشغلية والبحثية، وإيجاد آفاق أخرى على مختلف الأصعدة، وهي غالبا ما تفكر في الهجرة إما بصفة دائمة أو وقتية ومنهم من وجد ضالته في السفر، ومنهم من لا يزال ينتظر، كما أنّ نظام “إمد” فشل في هدفه المعلن الأساسي المتمثل في “إصلاح من أجل تشغيلية أفضل””، وفق محدثنا.

ويوضح الطويلي قائلا “كانت محصلة نظام “إمد” الزيادة الكبرى في عدد الدكاترة الذين يتخرجون من الجامعات كل سنة دون أن يجدوا مكانا يليق بشهادتهم التي يفترض أنها الأهم، وأنها اعتراف أكاديمي بأنهم الأفضل في مجالهم، وبذلك كانت انتظاراتهم كبيرة وما وجدوه في الواقع مهين في أغلب الحالات ينمي لديهم الشعور بالضيم والوصم واللاعدالة، خاصة في نظام تشغيلي لهؤلاء تحكمه مناظرات تحكمها في معظم الأحيان لجان عليها لغط كبير”.

هجرة الكفاءات ليست ظاهرة جديدة ولا خاصة بتونس

الطيب الطويلي

إذا، فالجميع ينشد المغادرة نحو خاصة مع تعمق بطالة أصحاب الشهائد العليا وتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضبابيتها، وتعطل منظومة تشغيل خرجي التعليم العالي، وعقود العمل الهشة.

فتونس منذ سنوات تشهد نزيفا متواصلا لطاقتها البشرية نحو الخارج، فأضحى “الرحيل” هاجسا عمّ أصحاب الشهادات العليا وشهادات التكوين المهني ومن تقطعت به السبل غادرها عبر “قوارب الموت”، ففي أوت 2022 نشرت صحيفة “تايمز” (The Times) البريطانية تقريرا عن الهجرة من تونس إلى أوروبا، أشارت فيه إلى أنها بلغت أرقاما قياسية وشملت فئات من المجتمع لم تكن من قبل تضطر للهجرة، مثل العاملين ذوي الياقات البيضاء والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى الأطفال والفتيات.

ويرصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين غير النظاميين بين جويلية 2021 وجويلية سنة 2022، إذ بلغ عدد الواصلين إلى أوروبا عبر مختلف الطرق أكثر من 20 ألف تونسي.

فاتن الماجري

صحفية حاصلة على الأستاذية من معهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة، سنة 2009 اختصاص إذاعة. عملت بعدد من الصحف والمجلات التونسية على غرار جريدة "السور" اليومية (توقفت عن الصدور)، والمجلة الجامعة "قبل الاولى " ومجلة "med.tn" المختصة في المجال الطبي.
زر الذهاب إلى الأعلى