ملفات

الفرنكوفونية.. هكذا تهاوت من علياء عرشها الثقافي

فقدت اللغة الفرنسيّة في العقود الأخيرة الكثير من إشعاعها الحضاري ومدلولها الثقافي، وانحسرت رقعة انتشارها وتداولها بين الناس للتهاوى بذلك عملتها في سوق الألسن.

ولأنّ للغة مكانة اعتباريّة كبرى في الهويّة الثقافيّة الفرنسيّة، سارع الفرنسيون إلى إعادة نشرها وإحيائها وبذلوا الغالي والنفيس من أجل دفع الأجيال الشابّة حول العالم إلى تعلّمها والتشبّع بمبادئها.

إلاّ أن ذلك طالما طرح إشكالات كبرى حول موضوع “الهويّة” و”السيادة اللغويّة” في مجموع الدول الفرنكوفونية التي عاشت لعقود تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، ودفع الكثير منها إلى إعلان “التمرّد الثقافي” إزاء بلد طالما كان يعوق، فيها، سيرورات التغيير والنهضة الحضاريّة.

لغة “موليير” تتقهقر

تتأرجح اللغة الفرنسيّة بين المرتبتين الخامسة والسابعة في قائمة اللغات الأكثر تداولا في العالم حسب اختلاف تقديرات الجهات المنجزة لعمليّة الإحصاء، حيث تأتي اللغة الفرنسيّة في المرتبة الخامسة وفق آخر الإحصاءات التي نشرها موقع “ستاتيستا” لسنة 2020 بعد الإنجليزية والمندرينيّة والهنديّة والإسبانيّة بعدد متحدثين يبلغ الـ 277 مليون شخص، بينما تحتل المرتبة السابعة حسب الإحصاء المنشور في سنة 2021 على الموقع المتخصص في علم اللغات “اثنولوجيا” بعدد متحدثين بلغ الـ267 مليون شخص بعد الانجليزية والمندرينيّة (الصينية) والهنديّة والإسبانيّة والعربيّة والبنغاليّة.

ترتيب اللغات في العالم

وعلى عكس لغات واسعة الانتشار مثل الانجليزية والصينيّة تعتبر الفرنسيّة اللغة الرسميّة لـ 29 دولة فقط بما يجعل نسبة المتحدثين بها كلغة أم لا يتجاوز الـ 77.2 مليون نسمة حول العالم حيث تنحصر في كل من فرنسا وبلجيكا الفرنكوفونية وسويسرا الروماندية ولكسمبورغ وبعض المستعمرات السابقة في إفريقيا مثل السينغال ومالي والتشاد وإقليم الكيبيك في كندا.

المقالات المتصلة
خريطة الدول الفرنكوفونية

وأقرّ الباحثون في علم اللغة انحسار اللسان الفرنسي وتناقص نسبة الناطقين به والمقبلين على تعلمه حول العالم حيث ذكرت دراسة أعدها المجلس الثقافي البريطاني سنة 2019 أن عدد الطلبة الذين يقررون تعلم اللغة الفرنسيّة حول العالم انخفض بشكل رهيب خلال العقدين الأخيرين فيما شبّه المؤرخ والأكاديمي الجزائري محمد أمين بالغيث في حوار تلفزيوني على قناة “البلاد” الجزائريّة، اللغة الفرنسيّة بأنها “مجرّد لهجة أقرب إلى لغة “الماو ماو” منها إلى اللغة العالميّة”.

وبالنظر إلى مسار التاريخ فقد شهدت اللغة الفرنسية ومن ورائها الثقافة الفرنكوفونية منذ القرن السابع عشر أوج انتشارها بدافع كبير من حدثين تاريخيين وهما الثورة الفرنسيّة وما أعقبها من تطور ثقافي وصناعي وامتداد النفوذ الاستعماري الفرنسي على عدد كبير من دول العالم.

وهكذا تعزز حضورها في معظم الدول التي احتلتها فرنسا لتتبوأ المرتبة الثانية في عدد منها مثل تونس، الجزائر، المغرب، سوريا ولبنان، فيما فُرضت بقوة الاحتلال كلغة رسميّة أولى في دول أخرى مثل السنغال، الكاميرون والكوت ديفوار، بينما كانت تتنازع المرتبة الأولى داخل أوروبا مع غريميها العنيدين الألمانيّة والايطاليّة.

وبما أّن اللغة هي “وعاء الفكر ومرآة الحضارة” فإننا لا نستطيع فهم تراجع اللسان الفرنسي في العالم دون النظر في قيمة الثقافة الفرنكوفونية اليوم ومدى تأثيرها في بناء الفكر الإنساني.

حيث لم تعد فرنسا تلك الأمّة العظيمة التي قاد مفكروها وفلاسفتها (جان جاك روسو، فولتير..) عصر التنوير في القارة الأوروبيّة وأسسّوا لنهضة فكريّة وسياسيّة طبعت القرنين 17 و18 وقادت إلى قيام الثورة الفرنسيّة.

ولم تعد الثقافة الفرنسيّة بتاريخها المعاصر تمثّل منارة للفكر والفنون كما كانت بين السنوات الـ 50 والـ 80 من القرن الماضي، عندما كانت تنهل من معين رواد الفكر كجون بول سارتر واميل زولا وآلبير كامو، وتغترف من موائد المبدعين الفرنكفونيين من أصول أوروبيّة شرقيّة (كونديرا..) وعربيّة (كاتب ياسين، امين معلوف، الطاهر بن جلون…)

فقد تراجعت مساهمة اللغة الفرنسيّة في الحقل الثقافي والفكري والعلمي، أمام صعود غيرها من الثقافات المعاصرة حول العالم وتنامي تأثيرها في بناء المعرفة على غرار الثقافة الانجلوسكسونيّة والألمانيّة والإسبانيّة.

وتزامن هذا الانحدار مع أفول نجم الإمبراطوريّة الاستعماريّة الفرنسيّة في بداية القرن العشرين وتقلص دورها السياسي والاقتصادي خاصة في القارة الإفريقيّة التي تمثّل 59% من الفرنكوفونية في العالم وفق تقرير المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية لسنة 2019، مقابل صعود قوى اقتصاديّة كبرى مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكيّة والهند.

حيث نجحت هذه القوى في فتح أبواب القارة السمراء وغزو سوقها الاستهلاكيّة، مما دفع “المجلس الفرنسي للمستثمرين” للتعبير عن قلقه من تراجع حصة الاستثمار الفرنسي في إفريقيا مقارنة ببقيّة البلدان الناشئة مثل الصين التي تمتلك 16 % من حصّة السوق الإفريقيّة في وقت لم يعد الفرنسيون يمتلكون استراتيجيّة فعالّة لاختراق هاته السوق، وذلك حسب تقريره الصادر سنة 2015.

عالم يتحدث الإنجليزيّة

في ظلّ واقع يحكمه صراع الهيمنة، عجزت اللغة الفرنسيّة عن مقارعة نظيرتها الإنجليزية والصمود أمامها في سوق الألسن، فقد تعاظمت سيطرتها لتصبح اللغة الأولى في العالم.

وهو تفوق استمدّ جذوره التاريخيّة من حدثين رئيسيين: كان أولهما حجم التوسع الاستيطاني للإمبراطورية البريطانيّة ما بين القرنين 17 و20 حيث احتلّت 25 % من مساحة العالم وكانت تسمى الامبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشمس.

ثم كان صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكيّة وما شهدته من ثورة علميّة وتكنولوجية منذ نهاية القرن الثامن عشر، حيث استطاعت الثقافة الانجلوسكسونيّة أن تعزّز انتشارها بعد ظهور الشبكة العنكبوتيّة في أواخر ستينات القرن الماضي مما فتح لها منافذ على كامل بلدان العالم وأشّر إلى بداية ظاهرة “العولمة ” في ثوبها اللغوي.

ترتيب لغات الأنترنيت

وهكذا أصبحت اللغة الانجليزية هي لغة العلم الأولى في العالم حيث تشير الإحصاءات إلى أنّ 80% من البحوث والمنشورات العلميّة تكتب باللغة الانجليزيّة، فيما لم يتجاوز نصيب بقيّة لغات العالم من ذلك ومن بينهم الفرنسيّة الـ 20%، وهو ما جعلها تحتل الصدارة في المجال الأكاديمي وحركات الترجمة وحقل البحث العلمي والإنتاج الأدبي والفكري.

كما تساهم الانجليزيّة في 51 % من محتوى شبكة الأنترنت والمواقع الأكثر زيارة مقابل 4.1 % فقط للغة الفرنسيّة.

في المقابل، تآكلت المضامين العلميّة والثقافيّة للغة الفرنسيّة حتى أصبحت تستمّد فخرها من كونها لغة الموضة والعطور والنبيذ، ما دفع المذيع البريطاني الشهير “جيرمي باكسمان” إلى التوجه إلى الفرنسيين بقوله “إنّ لغتكم الآن محدودة وعالمها محدود، ومن يتعلمها يتعلّم شيئا لا قيمة له”.

وسجل هذا التفوق انعكاسه على المستوى الرسمي حيث تحولت اللغة الإنجليزية إلى لغة العمل الرسميّة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت الفرنسيّة هي المهيمنة على مقره في بروكسيل وجميع مؤسساته حتى تسعينات القرن الـ 20.

ويشار إلى أن 80 % من الوثائق الرسميّة في الاتحاد الاوروبي تُكتب باللغة الانجليزيّة بينما تكتب 5 % باللغة الفرنسيّة و2% بالألمانيّة بالإضافة إلى اعتماد دول وسط وشرق أوروبا الإنجليزيّة كلغة ثانية، وفق ما أشارت إليه صحيفة “والت ستريت جورنال ” في أكتوبر 2018.

الإنجليزيّة تغزو الفرنسيّة في “عقر دارها”

عاشت فرنسا قرونا في ظلّ “تعصب” وانغلاق لغوي ينتصر للغتها الأمّ دون غيرها من اللغات منذ أن بدأت الأكاديميّة الفرنسيّة إثر تأسيسها عام 1635 حملتها لتطهير اللغة الفرنسيّة من “شوائب” اللغات الأخرى حتى كاد يكون استخدام اللغة في الحياة اليوميّة والثقافيّة وفي وسائل الإعلام حكرا على اللسان الفرنسي وحده.

وفي هذا الصدد، سنّت فرنسا عام 1994 قانون “توبون” لجعل استخدام الفرنسيّة إلزاميّا في جميع أشكال البثّ التلفزيوني ممّا يفرض دبلجة كلّ البرامج الناطقة بلغات أجنبيّة، كما يُلزم المحطات الإذاعيّة بتشغيل أغان فرنسيّة بما لا يقلّ عن 40% من محتوى البثّ.

هذه “الغيرة اللغويّة” دفعت الرئيس الفرنسي السابق “جاك شيراك” إلى الانسحاب لفترة قصيرة من جلسة في قمّة للاتحاد الأوروبي عام 2006 عندما خاطب أحد ممثلي قطاع الأعمال الفرنسي الحاضرين باللغة الانجليزيّة.

ولكن يبدو أنّ الثقافة الفرنكوفونية لم تكن تملك ما يكفيها من مقومات الصمود حتى تواجه المدّ الثقافي الأنجلوسكسوني الذي اخترق المجتمع الفرنسي ونجح في فرض نمط معيشي واستهلاكي جديد تحت وطأة تيّار جارف من “العولمة الثقافية”.

وبعد عقود من الانغلاق اللغوي اجتاحت الجمل والمفردات الإنجليزيّة اللغة الفرنسيّة خاصة لدى الأجيال الشابّة مما أدّى إلى ظهور لغة هجينة اصطلح الباحثون على تسميتها بالـ “Franglais” (مزيج بين كلمتي Français وAnglais) ودرجت هذه الكلمة إعلاميّا وشعبيّا حتى باتت مادّة للتندّر.

شعار je speak franglais

وتواترت الجهود للحفاظ على لغة “موليير” وكان أبرزها إطلاق المؤسسات الفرنسيّة المهتمة بالشأن اللغوي حملة شهيرة تحت شعار “علينا أن ننقي لغتنا”، أحصت خلالها المفردات والتعابير الإنجليزيّة التي يستخدمها الفرنسيون في حياتهم اليوميّة والعمليّة والدراسيّة ثمّ انكبّت على “فرنسة” ما أمكنها من هذه التعابير.

لكن هذه المساعي لم تنجح في إقصاء الإنجليزيّة من الساحة اللغوية الفرنسيّة خاصة أن إقبال الفرنسيين على تطعيم لغتهم الأم بمفردات انجليزيّة كان يعود في جانب كبير منه إلى طبيعة اللغة الفرنسيّة نفسها حيث أن “الكثير من المفردات الإنجليزيّة أقصر وصديقة للمستخدم أكثر من نظيرتها الفرنسيّة” وذلك ما وصفه الخبير اللغوي الفرنسي “جان ميليت” بظاهرة “الكسل اللغوي”.

وهو ما كان يراه حماة اللغة الفرنسيّة والمتعصبون لها خطرا داهما يهدد القوميّة الفرنسيّة في أحد أهم ركائزها وهي اللغة مشبهين إيّاه بخطر “الغزو النازي” الذي واجهته فرنسا منذ عقود.

حيث ناشد 100 فنّان ومثقف من 25 دولة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لإنقاذ الفرنسيّة من الإنجليزيّة وجاء في نص البيان الصادر في جوان 2019 “إنّ اللغة الفرنسيّة في وضع سيء وهي تختنق بفعل اللغة الانجلو-أمريكيّة”.

وبالتزامن مع حلول الذكرى 79 لنداء الجنرال الفرنسي “شارل ديغول” للوقوف في وجه النازيّة في 18 جوان 1940 طلب الموقعون على هذا البيان من ماكرون “أن يقتدي بأثر روح المقاومة ويحمي اللغة الفرنسيّة”.

وكانت الأكاديميّة الفرنسيّة قد حذّرت في بيان لها بتاريخ 24 نوفمبر 2019 من التهديد الكبير الذي يواجه اللغة الفرنسيّة بسبب “تطوّر ظاهرة الـ Franglaisوالانتهاكات المتكرّرة لقانون توبون الذي أرسى قواعد استخدام الفرنسيّة في المجال العام”، كما دعت المؤسسات الحكوميّة الفرنسيّة إلى الكفّ عن استخدام المصطلحات الفرنسيّة المهجنّة بالإنجليزية، وعاتبت الأكاديميّة الرئيس “ماكرون” على استخدامه المتكرّر لعبارات إنجليزيّة في عدد من خطاباته داخل فرنسا وخارجها.

في المقابل، تصاعدت أصوات فرنسيّة على المستوى الرسمي لم تكن ترى في امتزاج اللسان الفرنسي بعبارات إنجليزيّة خطرا داهما بقدر ما كان يمثّل مصدرا للثراء اللغوي، وطالبت بالتحرّر من الغيرة الشديدة على لغة “موليير” والانخراط بإيجابية في عالم أصبح يتسم بتعدد اللغات وذلك حتى تسترّد اللغة الفرنسيّة قدرتها على الصمود والمنافسة.

حيث قالت وزيرة الثقافة الفرنسيّة السابقة “فلور بيريلان” في مقابلة مع موقع “لوكال” الإخباري عام 2015 إنها لا ترى جدوى من حماية الفرنسيّة من التأثيرات الخارجيّة مثل الإنجليزيّة، وأضافت “علينا أن نفهم العالم الذي نعيش فيه اليوم حيث تغتني لغتنا بالتأثيرات الخارجيّة، فالفرنسيّة كانت دائما لغة أثْرتها مفردات من لغات أخرى”.

وفي اعتراف رسمي بـ “غلبة” اللغة الانجليزيّة أقرّ رئيس الوزراء الفرنسي السابق “ادوارد فيليب” عام 2018 بتراجع اللغة الفرنسيّة مقابل تفوق نظيرتها الانجليزيّة عالميّا قائلا إنّ “الانجليزية الآن هي اللغة المهيمنة للتفاهم بين الشعوب، يجب عليك أن تتحدث الانجليزية إذا كنت ترغب في الانتقال إلى العولمة”.

ويحتلّ الطلبة الفرنسيون عادة المراتب المتأخرة دوليّا في ما يخص التمكن من لغة “شكسبير”، حيث احتلّت فرنسا في أحدث تصنيف لأكبر دراسة عالميّة تهتم بتقييم هذه القدرات “Education First ” المرتبة 23 في أوروبا من بين 34 دولة سنة 2020 بعد أن كانت تحتل المرتبة قبل الأخيرة سنة 2017.

الانجليزية الآن هي اللغة المهيمنة للتفاهم بين الشعوب، يجب عليك أن تتحدث الانجليزية إذا كنت ترغب في الانتقال الى العولمة“ادوارد فيليب” رئيس الوزراء الفرنسي السابق

وكان “فيليب” قد أعلن ف أن حكومته ستتخذّ خطوات لتحسين مستوى اللغة الإنجليزيّة لدى طلبة البلاد كي تعدّهم بشكل أفضل لـ“غزو العالم”، وهو ما أثار حفيظة التيار المتعصب للغة الفرنسيّة الذي عبّر عن رفضه للمشروع الساعي إلى جعل “الانجلو-أمريكيّة” لغة رسميّة ثانية لفرنسا واصفين إيّاه بـ“المشروع الآثم” و”السلوكيات الخانعة”، وفق بيان المثقفين الفرنكوفونيين الذي سبق الإشارة إليه.

ماكرون يستعيد أمجاد “فرنسا العظمى”

وأمام هذا النزيف المستمر الذي تعانيه اللغة الفرنسيّة منذ عقود، وبعد قرون من “المجد” الاستعماري الذي تشبعت فيه فرنسا بثقافة القوّة والغلبة، كان لابدّ من إنقاذ هذا الإرث الفرنكفوني من الضياع والتلاشي في زخم “سوق اللغات”.

ولما لم يعد متاحا أمام الفرنسيين حمل لغتهم على ظهر دبّابة –كما فعلوا بالأمس البعيد- بعدما أصبحت صيغة الاستعمار العسكري المباشر مرفوضة دوليّا بنصوص قانونيّة صادرة عن الأمم المتحدة، كان من الضروري إيجاد صيغ أخرى لتجديد السيطرة اللغويّة والثقافيّة على مستعمراتها السابقة. حيث عملت فرنسا منذ نهاية احتلالها العسكري لها على بسط نفوذها الثقافي فيها عبر ما تسميه في سياستها الخارجيّة بـ “الديبلوماسيّة التربويّة والثقافيّة” وهدفها “جعل اللغة الفرنسيّة إحدى أبرز لغات الغد وميزة من مزايا العولمة.” وفق ما ورد في الموقع الرسمي لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة.

شبكة المدارس الفرنسية في الخارج

وهكذا وقع اعتماد المدخل الثقافي والتربوي من أجل توطين لغتها الأم وترسيخها في النظم التعليميّة لعديد الدول وسخرت فرنسا لذلك شبكة من المؤسسات التعليميّة والثقافيّة العامة والخاصّة تنضوي تحت إشراف “وكالة التعليم الفرنسي في الخارج” وتعدّ 522 مؤسسة تعليميّة موزعة على 139 بلدا وتستقبل سنويا 370 ألف تلميذ فرنسي مقيم بالخارج وأجنبي، يدرسون طبق البرامج الرسميّة للدولة الفرنسيّة.

كما عملت على ترسيخ اللغة الفرنسيّة كلغة أجنبيّة أولى في النظم التعليميّة الحكوميّة لعدد من الدول العربيّة (تونس، الجزائر، المغرب، لبنان..)  وجعلتها اللغة الرسميّة في أغلب مؤسساتها الجامعيّة إضافة إلى أنها اللغة التي تدرّس بها الكثير من المواد العلميّة في المراحل الإعدادية والثانوية.

وقد أولى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ وصوله اى قصر “الايليزيه” في 2017 اهتماما بالغا بدعم انتشار اللغة الفرنسيّة في العالم وراهن على اللسان الفرنسي كأحد أسلحة “القوّة الناعمة” لاستعادة أمجاد بلاده وإحياء نفوذها الدولي خاصة في القارتين الافريقيّة والأوروبية في ظلّ المتغيرات الاقليميّة والدوليّة التي يعيشها العالم.

حيث أعلن ماكرون منذ الأيام الأولى لتوليه الرئاسة اعتزامه إطلاق خطّة شاملة لنشر اللغة الفرنسيّة في العالم وجعلها في المرتبة الأولى في إفريقيا وقال في خطاب له ببوركينا فاسو أثناء زيارته لعدد من الدول الإفريقيّة في نوفمبر 2017 إن الفرنسيّة “ستصبح اللغة الأولى في افريقيا ولربما في العالم حتى أننا باشرنا أداء دورنا بشكل صحيح خلال العقود المقبلة”.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحدى زياراته إلى الطوغو

وما فتئ ماكرون يراهن على النمو الديمغرافي المتزايد للسكان في القارة الإفريقيّة، ويستند إلى تقارير أمميّة تقول إنّ الفرنكوفونية هي المنطقة اللغويّة التي تشهد أكبر نموّ مستفيدة من النمو الديمغرافي لإفريقيا الفرنكوفونية، وإنه بحلول عام 2065 سيبلغ عدد الذين يتكلمون الفرنسيّة مليار شخص وهو أكبر بـ5 مرّات من عددهم عام 1960 ما سيجعل الفرنسيّة ثاني لغة دوليّة بعد الانجليزيّة.

إلا أن هذه الأرقام يمكن أن “تصبح مجرّد توقعات متفائلة إذا لم يتمّ دعم التعليم في افريقيا” كما قال المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الفرنسي، ولذلك اعتمدت خطة ماكرون التي أطلق عليه “الخطّة الشاملة للفرنسيّة والتعدّد اللغوي في العالم” على دعم قطاع التعليم في دول افريقيا وذلك بمضاعفة المساعدات المخصصة له في هذه البلدان وتشجيع الطلاب لـ”فتح أبواب فرنسا” عبر المنح الدراسيّة.

وأكدّ ماكرون في خطابه بجامعة “واغادوغو” أن فرنسا تسعى إلى بناء “فرنكوفونية جديدة” تقطع مع الماضي الاستعماري وتتموقع بوصفها “أداة للتنوّع والإبداع” في عالم يحكمه تعدّد اللغات، داعيا الأفارقة إلى فتح “صفحة جديدة” مع بلاده.

حيث أدان ماكرون الإرث الاستعماري الفرنسي معترفا بأن “جرائم الاستعمار الأوروبي في إفريقيا لا جدال فيها” كما أقرّ في مؤتمر صحفي عقدة في ساحل العاج في 2019 أن الاستعمار كان “خطأ جسيما ارتكبته الجمهوريّة في حقّ العديد من الدول”.

وما فتئ الرئيس الفرنسي يؤكد في سياقات مختلفة أن خطته لا تسعى إلى فرض اللسان الفرنسي على الثقافات المحليّة للقارة السمراء، مشيرا إلى أنه قد أضحى بدوره جزء من هويتها الثقافيّة فــ “اللغة الفرنسية لم تعد فرنسيّة فقط بل إفريقية بالمستوى نفسه لا بل أكثر”، وأضاف ماكرون في كلمة له ألقاها خلال انعقاد القمة الفرنكوفونية في 2018 “إن (مركز) اللغة الفرنسيّة ليس على يسار نهر السين أو يمينه بل هو بلا شك في مكان ما في حوض نهر الكونغو”.

ولأن خطته الشاملة تهدف إلى دعم مبدأ تعدّد اللغات في العالم، ما انفك ماكرون ينتقد هيمنة اللغة الانجليزيّة – غريمه التقليدي- على سوق اللغات العالمي، داعيا الأفارقة إلى عدم التخلي عن اللغة الفرنسيّة والتحول إلى الانجليزيّة وقال في خطابه ببوركينا فاسو إنّ “رفض اللغة الفرنسيّة من أجل جعل الانجليزيّة لغة شائعة في القارة الافريقية يعني أنك لا ترى المستقبل”.

ويروج ماكرون لفكرة الثراء الحضاري والثقافي الذي تتمتع به اللغة الفرنسيّة مقابل نظيرتها الانجليزيّة ففيما تختزل لغة “شكسبيير” طابع الحياة الاستهلاكيّة السريعة تعتبر لغة “موليير” لغة التجديد والإبداع وحقوق الإنسان ما يجعها الأجدر للتعايش مع الثقافات المحلية الافريقيّة.

إن (مركز) اللغة الفرنسيّة ليس على يسار نهر السين أو يمينه بل هو بلا شك في مكان ما في حوض نهر الكونغوالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

وعلى صعيد آخر، يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عزّز طموح فرنسا في تزعمه والدفع به نحو نظام عالمي متعدّد الأقطاب حيث قال ماكرون في اجتماع طلابي بإحدى الجامعات الليتوانيّة في 2020 “لا يمكننا أن نقبل العيش في عالم ثنائي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة والصين”.

وأمام تفوق ألمانيا على الصعيد الاقتصادي والنمو الديمغرافي راهن ماكرون على سلاحه التقليدي وهو اللغة الفرنسيّة وتعهّد في معرض خطابه الذي ألقاه أمام الأكاديميّة الفرنسيّة سنة 2018 بـ “النضال من أجل توسيع استخدام الفرنسيّة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي”، منتقدا هيمنة اللغة الانجليزيّة على عاصمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.

 “فرنكوفونية جديدة”… كولونياليّة معاصرة

طموحات الرئيس الشاب وخطته الشاملة عرّضاهُ إلى موجة واسعة من الانتقادات في أوساط المثقفين الأفارقة، كانت ترى في محاولاته إحياء اللغة الفرنسيّة في إفريقيا وجها مقنعا لاستعادة السطوة الاستعماريّة الفرنسيّة على القارة السمراء وخدمة لمصالحها في تثبيت ذراعها الاقتصادية والسياسيّة فيها.

حيث رفض الكاتب الفرنسي الكونغولي “آلان مابانكو” دعوة من ماكرون للمساهمة في إعداد هذه الخطّة، معتبرا أن جهود فرنسا لنشر اللغة الفرنسيّة في الخارج ما هي إلاّ ذريعة للتدخّل المستمّر في مستعمراتها السابقة.

ففيما يدعي ماكرون أن اللغة الفرنسيّة قطعت مع ماضيها الاستبدادي وتحرّرت من علاقتها المركزيّة بالدولة الفرنسيّة لتنتمي اليوم إلى جميع المجتمعات الناطقة بها يرى منتقدوه أن هذه المقاربة تحمل الكثير من التناقض حيث لا تزال فرنسا تتزعم القيادة الفكريّة للمشروع الفرنكفوني، فترسم ملامحه وتضطلع بتنفيذ خططه في علاقة عموديّة تنصبّها في دور الوصيّ على اللسان الافريقي.

ما الذي تغيّر منذ ذلك الحين ..لسوء الحظّ لم يزل يُنظر إلى الفرنكوفونية على أنها استمرار لسياسة فرنسا الخارجيّة في مستعمراتها السابقةآلان مابانكو

وفي هذا السياق، تحدث “آرون تيمس” وهو كاتب ومحلل سياسي في مقال له بعنوان “اللغة الفرنسيّة.. مفتاح ماكرون لاستعادة أمجاد الامبراطوريّة الفرنسيّة” نشر في مجلة “فورين بوليسي” في شهر ديسمبر 2020، عن “العلاقة العضويّة التي تربط العقيدة الاستعماريّة الفرنسيّة بمسألة اللغة” حيث أنها لم تكن مجرّد أداة للتواصل الاجتماعي بقدر ما كانت “جزء من سيادة الأمّة الفرنسيّة وضامنا لطول بقاءها وترسيخ نفوذها”.

يرى الكاتب أن مراهنة ماكرون على النمو الديمغرافي السريع للقارة الافريقيّة هو نفس السبب الذي سيجعل اللغة الانجليزيّة تمتد هي الأخرى وبنسب أكبر من نظيرتها الفرنسيّة، مضيفا أنه لو أحسن الفرنسيون قراءة التاريخ لعلموا أن الجهود التي يعتزمون مضاعفتها في إفريقيا لدعم اللغة الفرنسيّة (دعم التعليم، التبادل الثقافي…) ستبوء لا محالة بالفشل.

وفسّر “سكابينكر” ذلك بأن الإمبراطوريّة البريطانيّة لم يكن لديها هاجس نشر لغتها وتعميم دراستها في مستعمراتها السابقة، حيث لم تسعى بريطانيا إلى طمس لغتها الأمّ ولم تحرص على تعليم اللغة الانجليزيّة سوى لنخبة قليلة من الطلاّب المتفوقين أوممّن وُكلّت إليهم مهمّة الترجمة وإدارة التواصل بين البريطانيين والأهالي.

ويواصل الكاتب أنّ “الإقبال على تعلّم اللغة الانجليزيّة كان دوما يأتي من الأدنى وينبع من رغبة ذاتيّة ومستقلّة لهاته الشعوب من أجل تعلّم لغة النجاح الحديثة”، مضيفا أنه إن كان إقبال الأفارقة على تعلم اللغة الفرنسيّة يمنحهم فرصة الحصول على منح دراسيّة في فرنسا فقط فإنهم سيتمتعون بحظوظ أوفر لو أقدموا على دراسة اللغة الانجليزيّة، حيث ستفتح لهم ليس فقط أبواب الولايات المتحدّة وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلاندا بل أيضا هولندا وألمانيا وحتى الصين.

وفيما تدرك فرنسا أن الانجليزيّة هي اللغة التي تفتح لك أبواب المستقبل مشجعة طلابها على اتقانها حتى يتمكنوا من “غزو العالم” ما فتئ رئيسها ماكرون يدعو الأفارقة إلى التشبث بلغة القوة الاستعماريّة السابقة، ويحثهم على جعلها اللغة الأولى أمام أي لسان آخر وهو ما يصفه مراقبون بازدواجية المعايير التي تتنافى وشعارات “العالم متعدد اللغات” وتؤكد الأبعاد الكولونياليّة لطموحات الرئيس الشاب.

يختار الناس لغة معينة لنفس السبب الذي يدفع اللصوص لسرقة المصارف: لأنها الأماكن التي يوجد فيها المالميكائيل سكابينكر

المنظمة الدولية الفرنكوفونية… التأسيس والنشأة

لم يكن لجهود ماكرون أن تكون ذات معنى لولا اعتماده على مركز الفرنكوفونية العالمية وقلبها النابض وهو المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية… ذلك البيت الكبير الذي يجمع الدول الناطقة باللغة الفرنسيّة (كلغة رسميّة أو لغة منتشرة) والمنوط بعهدته أساسا تنفيذ المشاريع الثقافيّة.


شعار المنظمة الدولية للفرنكوفونية

وتأسست المنظمة بصفة رسميّة في 20 مارس 1970، تضم 88 بلدا وحكومة بين دول كاملة العضوية وأخرى مراقبة، كما تتخذ من العاصمة الفرنسيّة باريس مقرّا لها ويعود إليها بالنظر ستّة مكاتب إقليميّة موزعة على مختلف القارات مع استحداث مكتبين جديدين في الشرق الأوسط وشمال افريقيا ومقرّهما بيروت وتونس بالإضافة إلى أن لها تمثيليات دائمة في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي.

وتقول المنظمة وفق ما جاء في موقعها الرسمي إنّ الفرنكوفونية تمثل “مجالا من أكبر المجالات اللغوية العالمية، فهي ليست مجرد تقاسم لغة لأنها تعتمد أيضا على أساس الاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية”.

وجاء في موقع وزارة الخارجيّة الفرنسيّة أنّ هدف المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية يتمثّل في “إحلال السلام وتحقيق الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان وترويج اللغة الفرنسية والتنوع الثقافي فضلاً عن تحقيق الازدهار المشترك والدائم”.

ويعود إطلاق مصطلح “الفرنكوفونية” (La Francophonie) إلى أواخر القرن 19 بعد أن وضعها عالم الجغرافيا الفرنسي “اونزيم راكلو” وعرفها سنة 1880 على أنها مجموع البلدان والأشخاص التي تستعمل اللغة الفرنسيّة.

وقبل أن تتخذ شكلها الإداري الحديث، بدأت مرحلة تأسيس الفرنكوفونية عام 1926 عندما أسس مجموعة من المثقفين جمعية الكتّاب باللغة الفرنسية، ليتبعهم بعد ذلك الصحفيون بإنشاء الاتحاد الدولي للصحافيين والصحافة المحررة باللغة الفرنسية عام 1950.

وشهد عام 1960 إنشاء أول منظمة فرنكوفونية بين الحكومات ليتواصل الاندماج والتأسيس ويطال التعليم العالي عندما بادر الأساتذة الجامعيون سنة 1961 إلى تأسيس اتحاد الجامعات الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية التي تحول اسمها عام 1999 إلى وكالة الجامعات الفرنكوفونية وتضم في عضويتها 677 مؤسسة تعليم عال موزعة على 81 بلدا.

وفي 1967 أسّس البرلمانيون جمعية خاصة بهم، تغير اسمها عام 1997 إلى الجمعية البرلمانية الفرنكوفونية، وتضم 65 برلمانا عضوا و11 ملاحظا وممثلا خاصا.

وبدفع من الرئيس السينغالي السابق “ليوبولد سيدار سينغور” أُنشأت أول وكالة حكومية فرنكوفونية سنة 1970 بـ”نيامي” في النيجر وأطلق عليها حينها اسم “وكالة التعاون الثقافي والتقني”، هذا العمل كان تحت إشراف “اندريه مالرو” وزير الثقافة الفرنسي حينها وبتعاون 3 رؤساء أفارقة قاموا بصياغة ميثاقها التأسيسي وهم االسينغالي “سينغور” والنيجيري “حماني ديوري” والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة.

وفي عام 1998 تحوّل اسمها إلى “المنظمة الحكومية الدولية الفرنكفونية” ليستقرّ أخيرا على “المنظمة الدولية للفرنكوفونية” في العام 2005.

وتخضع المنظمة لسلطة ثلاث مؤسسات رئيسيّة هي مؤتمر القمّة ثمّ المؤتمر الوزاري والمجلس الدائم للفرنكوفونية كما يعتبر الأمين العام أسمى موظفيها، وبالنظر إلى احتضان القارة الإفريقيّة ما يفوق نسبته الـ 48 % من الأشخاص الناطقين بالفرنسيّة فقد تواترت – في أغلب الأوقات- شخصيّات افريقيّة على منصب الأمانة العامّة وكان من أبرزها الرئيس السينغالي السابق “عبدو ضيوف” والديبلوماسي المصري “بطرس بطرس غالي” وترأسها حاليّا وزيرة الخارجية الرواندية “لويز موشيكيوابو”.

وبالتزامن مع ازدياد توسعها في السنوات الأخيرة فتحت المنظمة الفرنكوفونية أبوابها أمام عضويّة العديد من البلدان التي لا تربطها صلة باللغة الفرنسيّة مثل بلغاريا وقطر ليصل عدد الدول والحكومات الأعضاء فيها إلى 88 وتتحوّل بذلك إلى ثاني أكبر منظمة دوليّة بعد منظمة الأمم المتحدّة.

وقد احتضنت أرمينيا سنة 2018 آخر مؤتمر للقمّة الفرنكوفونية الذي ينعقد كلّ سنتين، وكان من المقرّر أن تليها تونس في احتضان الدورة 18 عام 2020 بجزيرة جربة والتي توافق الذكرى الـخمسين لتأسيس المنظمة، إلا أنّ هاته الدورة تم تأجيلها مرتين في السابق حيث كان من المقرر أن تنعقد القمة في شهر ديسمبر 2020 ثم تأجلت إلى مارس 2021 واستقرت حاليا في موعد نوفمبر 2021 وذلك لاعتبارات صحية بسبب جائحة “كورونا”.

وبدأت التحضيرات إلى هذه القمة المتزامنة مع خمسينية المنظمة، من أشهر على المستوى التنسيق الدبلوماسي التونسي الفرنسي، والتحضيرات اللوجستية عبر تهيئة الفضاءات التي ستحتضنها في جزيرة جربة.

وقد كلف رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، غازي الغرايري السفير المندوب الدائم لتونس لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، بمهام سفير مندوب دائم للجمهورية التونسية لدى المنظمة الدولية للفرنكوفونية.

وفي لقاء جمعهما، يوم 8 جانفي بقصر قرطاج 2021، أحاط الغرايري رئيس الدولة علما بآخر المستجدات المتعلقة بهذا الحدث، وارتياح المنظمة الدولية للفرنكوفونية لحسن تقدم التحضيرات المتعلقة بتنظيم هذه القمة. وقد أكد رئيس الجمهورية على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة على جميع المستويات لضمان إنجاح هذا الموعد الهام.

وفي جلسة عامة بمجلس نواب الشعب بتاريخ 31 ماي 2012، أكد وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج عثمان الجرندي، أن التحضير للقمّة الفرنكفونيّة بتونس (بجزبرة جربة، ولاية مدنين) يجري على قدم وساق وعلى مدار الساعة لإنجاح هذا الحدث، مشيرا إلى أن وفودًا من المنظمة الفرنكفونيّة زارت جزيرة جربة لمعاينة الأطر المتوفرة و الوقوف على كل الاستعدادات.

وشدّد في ردّه عن سؤال النائب مبروك كرشيد (الكتلة الوطنية) بخصوص تصريح رئيس الجمهورية قيس سعيد بوجود أطراف تريد تعطيل ومنع انعقاد القمة الفرنكوفونية بتونس، على أن التحضير للقمّة قائم الذات ويسير بخطى حثيثة.

وأبرز ان العلاقات الدبلوماسية بين تونس ومختلف البلدان الإفريقية المنضوية تحت المنظومة الفرنكوفونية مستمرّة، مؤكدًا أن هذه العلاقات لا تنتظر المناسبات لتدعيمها وتقويتها.

وقال في ردّه عن سؤال للنائب ياسين العياري بخصوص مدى تحضير تونس لاتفاقيات ومجالات تعاون بين تونس والبلدان الإفريقية بمناسبة احتضان تونس للقمة الفرنكوفونية “لا نترقب مناسبات معينة لعقد اللقاءات الثنائية مع الدول الأفريقية أو غيرها من الدول والتعاون مستمر دائماً وليس مناسباتيا”.

وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد، التقى في 17 ماي 2021، بمقر السفارة التونسية بباريس، لويز موشيكوابو، الأمينة العامة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية.

وتطرقت المحادثة إلى الاستعدادات الجارية لتنظيم قمة الفرنكفونية والتنسيق بين تونس وهذه المنظمة لحسن الإعداد لهذا الاستحقاق الهام. وأكد رئيس الدولة التزام تونس بانعقاد القمة في موعدها.

وكانت المستشارة لدى رئيس الجمهورية المكلّفة بملف التعاون الدبلوماسي، سارة معاوية، قد صرحت سابقا بأن هذه القمة ستكون “أكبر حدث هام تنظّمه البلاد التونسية”، وقالت إنه يمثل “تحديا جديدا لتونس وموعدا بارزا بالنظر إلى حجم الوفود المشاركة فيه”، إذ أن منظمات دولية والعديد من البلدان غير الفرنكوفونية ستكون حاضرة في قمة هذه المنظمة الدولية التي تضم 88 بلدا وحكومة (54 بلدا عضوا و7 دول شريكة و27 بلدا بصفة ملاحظ).

لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد بالأمينة العامة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية

ميدانيا، تنقل وزير السياحة ووزير الشؤون الثقافية بالنيابة، الحبيب عمار يوم 9 جوان 2021، مرفوقا بالمديرة العامة لليونسكو “أودري أزولاي”، إلى جزيرة جربة للوقوف على آخر الاستعدادات والتحضيرات للقمة الفرنكوفونية التي ستحتضنها الجهة الخريف القادم.

وقال عمار إن القمة تعتبر موعدا سياسيا وثقافيا وسياحيا كبيرا، وإن العمل متواصل من أجل انعقادها في أحسن الظروف. وأضاف أن التظاهرة ستسجّل حضور حوالي 15 ألف زائر من دولة مختلفة.

من جهتها، أعلنت اللجنة الوطنية للإعداد للقمة الفرنكوفونية ولجنة القيادة لتنظيم القمة بالمنظمة الدولية الفرنكوفونية خلال ندوة صحفية انتظمت يوم 11 جوان 2021، بجزيرة جربة عن تنظيم منتدى اقتصادي كبير ضمن فعاليات القمة، وذلك بهدف دعم التعاون الثنائي والمتعدد الاطراف داخل الفضاء الفرنكفوني وخارجه في ما يتعلق بمجالات الشراكة والاستثمار والرقمنة.

وأفاد المشرف على كتابة اللجنة الوطنية للإعداد للقمة الفرنكوفونية، واصف شيحة، بأنّ القمة المرتقبة ستضم قرية فرنكوفونية لتكون بمثابة فضاء للتنوع الثقافي، باعتبار أهمية قمة جربة في تاريخ المنظمة الدولية للفرنكوفونية، سيما وأنها تتزامن مع الذكرى 51 لانطلاق التعاون الفرنكفوني، حيث كانت تونس من بين داعميه، مضيفا انه سيتم خلال القمة تكريم الاباء المؤسسين للتعاون الفرنكفوني.

وأكد انه تم اخذ كل التدابير اللازمة لإنجاح قمة جربة بالتعاون بين كل المتدخلين لإتمام كل التحضيرات المادية واللوجستية وإعداد المحتوى والفعاليات الموازية، اذ سيكون لتونس مشاركة فاعلة في اعداد الاتفاقيات والتوصيات التي سيتم المصادقة عليها خلال القمة، خاصة منها اصدار اعلان جربة الذي سيتضمن مقترحات تونس ومبادراتها، مضيفا ان تنظيم تظاهرة بمثل هذا الحجم من شانه ان يحقق الصدى الواسع لتصبح جزيرة جربة مرجعا لسياحة المؤتمرات واحتضان التظاهرات الكبرى.

من جهتها، قالت رئيسة لجنة القيادة لتنظيم القمة في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، “فانيسا لاموث” إنّ قمة جربة ستكون ناجحة وفي موعدها المحدد، وستكون قمة المستقبل الفرنكفوني، مشيرة الى تقدم الاستعدادات لتنظيم القمة في جربة، مضيفة “الجزيرة خيار ناجح لما تحمله من مكامن الجمال وخصوصيات تستهوي كل ضيوفها في فترة تستعيد الحياة انفاسها بعد جائحة كورونا”.

ومثل اللقاء مناسبة لطرح عدة مسائل في علاقة بالإعداد لهذه القمة ومنها بالخصوص الاستعداد المادي واللوجستي وتهيئة القاعة الشرفية بمطار جربة جرجيس الدولي لاستقبال رؤساء الدول والحكومات الذين سيمثلون 88 دولة وحكومة وكل المسائل ذات علاقة بالبرتوكول والتشريفات والنقل وإقامة الوفود وكل الضيوف، الى جانب مسألة التغطية الصحية بالتنسيق بين وزارتي الدفاع والصحة وبتركيز مركز اعلامي لمختلف وسائل الاعلام وتحسين البنية التحتية ونظافة المحيط ومسائل مختلفة.

قمة جربة ستكون قمة المستقبل الفرنكفونيرئيسة لجنة القيادة لتنظيم القمة الفرنكوفونية

يذكر أنه يتواصل الاعداد لإطلاق موقع واب حول القمة الفرنكوفونية يعرف بجزيرة جربة ويتضمن معلومات لكل مهتم بالقمة ومعلومات أخرى توجه إلى الوفود الرسمية، بالإضافة إلى عدد من المعطيات الاخرى ذات العلاقة.

وابتدعت مؤسسة التحالف الفرنسي بتونس (منظمة ثقافية غير حكومية) مسابقة “القلم الفرنكوفونية” التي تحتضنه تونس هذه السنة في دورته الثانية تحت شعار “سنة الفرنكوفونية”، وترمي هذه المسابقة في الكتابة باللغة الفرنسية، وفق التحالف الفرنسي، إلى “فسح المجال للمواهب الشابة للتعبير والكتابة باللغة الفرنسية، وفقا لأهم أهداف التحالف الذي يرمي إلى نشر اللغة الفرنسية في مختلف بلدان العالم. كما تهدف إلى اكتشاف المواهب الشابة وإعطائها الفرصة”. وهي مسابقة موجهة إلى من يتراوح سنهم بين 16 و20 سنة.

المنظمة الفرنكوفونية…تكتّل سياسي تحت عباءة ثقافية

بعيدا عن أهدافها الثقافيّة المعلنة تواجه المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية انتقادات عدّة تتمحور بالأساس في تجاوزها لدورها الثقافي وتحوّلها إلى كيان سياسي وتكتّل ايديولوجي تتزعمه فرنسا لتجد لها موطئ قدم وسط نظام دولي تحكمه العولمة والهيمنة الأمريكيّة.

حيث شهدت المنظمة منذ تأسيسها ارتفاعا كبيرا في أعداد الدول الأعضاء التابعة لها مما أدى إلى خلق فضاء وصفه خبراء السياسة والاقتصاد بـ “اللامتجانس” وذلك بسبب انعدام القواسم المشتركة بين دول المنظمة في ظلّ وجود بلدان لا تمت إلى اللغة الفرنسيّة بصلة ولا تربطها بها أي علاقة تاريخيّة.

وقد عبّر مؤسس جمعيّة الحقوق الفرنسيّة “كزافييه ديناو” عن قلقه حول توسيع نطاق المنظمة لتشمل بلدانا تنتهك وتتجاهل حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة، وهو ما لا يتلاءم مع المُثل الديمقراطيّة والقيم الأخلاقيّة التي تتبناها.

أما تونس فقد احتدم الجدل فيها بشأن جدوى تواجدها داخل المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية واحتضانها لقمتها الـ 18 خاصة بعد أن صادق مجلس نواب الشعب في أواخر شهر جوان 2020 على مشروع قانون يتعلّق بالموافقة على انتصاب مكتبها الإقليمي بشمال إفريقيا في تونس.

حيث أكد النواب الرافضون لهذا المشروع خلال جلسة استماع لممثلي وزارة الخارجيّة عقدتها لجنة الحقوق والحريّات مستهل عام 2020 أن بعث مكتب لهذه المنظمة في تونس يهدّد السيادة الوطنيّة ويصب في خانة “الاستلاب الثقافي” كما أثاروا تساؤلات حول طبيعة الأنشطة الموكلة إلى هذا المكتب خاصة أن الاتفاق المبرم بين الحكومة التونسية والمنظمة الفرنكوفونية ينصّ أن يتمتع أعضاءه بالحصانة القضائيّة والماليّة والتنفيذية.

هذا فيما يرى مناصرو المشروع أن المنظمة الفرنكوفونية مستقلّة عن فرنسا داعيين إلى النظر إلى الموضوع من منطلق براغماتي نفعي، مؤكدين أن التواجد تحت مظلتها لا يمّس من استقلاليّة تونس وسيادتها الوطنيّة بقدر ما يفتح لها الباب للاستفادة من البرامج الانمائيّة التي تمولها المنظمة في جميع المجالات. 

وبخصوص حاجة أفرادها للحصانة الديبلوماسيّة فإن ذلك يعتبر أمرا عاديّا ومعمولا به في عدّة منظمات مشابهة.

وفي تصريح لموقع “ضاد بوست” يقول الأكاديمي والباحث في علم الاجتماع الأمين البوعزيزي إنّ قمّة المنظمة الفرنكوفونية القادمة في تونس مشبعة بالرمزيّة الايديولوجيّة حيث أن فرنسا تعتبر تونس بمثابة المنفذ السهل والنقطة الأضعف للتنفذ في منطقة المغرب الكبير مقارنة ببلدان مثل المغرب والجزائر وهي تأتي في إطار الردّ على الثورة التونسيّة والخطوات الديمقراطيّة التي حققتها البلاد حيث تسعى فرنسا إلى اختبار الواقع السياسي في تونس فيما إذا كان يستطيع أن يضمن لها مصالحها أم أنه يحمل مضمونا تحرريّا من شأنه أن يهدّد مكانة اللغة الفرنسيّة فيها.

القمة الفرنكوفونية في تونس فيها تحدّ للثورة وسعي إلى الحفاظ على المصالح الفرنسية

الأمين البوعزيزي

“المستعمرات” الفرنسيّة “تتمرّد”…

أمام هذا المشروع الفرنسي الذي قادته الحكومات الفرنسيّة على اختلاف ألوانها ومرجعياتها الايديولوجيّة وكانت المنظمة الدوليّة للفرنكوفونية خير أداة لتنفيذه شهدت المستعمرات الفرنسيّة السابقة خلال العقود الأخيرة حراكا ثقافيا مناوئا يهدف إلى الخروج من تحت عباءة الثقافة الفرنسيّة والتحرّر من لسانها المتغلغل عميقا في مفاصل الحياة الخاصة والعامّة.

ولم تعد السيطرة على المستعمرات القديمة بتلك السهولة التي كانت قبل 200 عام، حيث أدركت تلك الدول – بأغلبيتها الإفريقيّة – أنها لو أرادت أن تحجز لها مكانا تحت الشمس فلا بدّ لها أن تتخلّص من هذا الإرث الثقافي الاستعماري الثقيل وأن تفكّ عن خناقها قبضة اللسان الفرنسي الذي ما عاد يتكلّم لغة العلم والمعرفة.

ففي الوقت الذي ما انفكّت فيه فرنسا تضع الاستراتيجيّات وتصوغ الخطط لدعم نشر اللغة الفرنسيّة في افريقيا سجّلت دول المستعمرات الانجليزيّة تفوقا اقتصاديّا على نظيرتها الفرنسيّة حيث تزاحمت الدول الفرنكوفونية على ذيل قائمة مؤشر التنمية البشريّة الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الانمائي لسنة 2015، إذ تتبوأ النيجر، وأفريقيا الوسطى، وتشاد مؤخرة القائمة بمعدلات نمو تتفاوت ما بين 0.35% وبين 0.39 %.

وبالنظر في مجموع المؤشرات المتعلقة بمعدلات النمو والانتاج في السنوات العشر الأخيرة فقد حققت الدول الناطقة بالإنجليزية معدّل نمو تراوح بين 6 و7 %، فيما سجلت منطقة الفرنك المكونة من ثماني دول أعضاء بغرب أفريقيا (UEMOA)، وخمس دول بوسط أفريقيا (CEMAC) معدل نمو بين المتوسط والمتدني في الفترة نفسها، إذ ارتفع من 3.4% في عام 2009 إلى 4.9% في عام 2015، بعد أن بلغ ذروته 6.1% في العام 2012.

وهكذا أدركت الدول الفرنكوفونية أن الارتهان للغة الفرنسيّة هو من أبرز العوائق أمام التقدّم العلمي والمعرفي والانفتاح الاقتصادي لمجتمعاتها مما دفع إلى تصاعد الدعوات المنادية داخلها بإعادة الاعتبار الى لغاتها الوطنيّة من جهة وتوطين لغات المستقبل – مثل الانجليزية والصينيّة – من جهة أخرى.

وذلك ما أشّر على بداية “العصيان الثقافي” والتحرّر من الـ”Francitude” وهي كلمة فرنسيّة جمعت بين عبارتي “Français”   و”servitude” أطلقها عالم اللسانيّات والمفكّر الجزائري رشيد بن عيسى للإشارة إلى “العبوديّة اللغويّة” التي كرستها فرنسا في الجزائر طوال عقود من الزمن.

الحراك الشعبي الجزائري يدّك عرش الفرنسيّة

شهدت اللغة الفرنسيّة في الجزائر تهاويا كبيرا منذ بداية الحراك الشعبي في 22 فيفري 2019، فإلى جانب طابعه السياسي والاقتصادي حمل هذا الحراك طابعا لغويا، حيث طالب الجزائريون بإسقاط اللغة الفرنسيّة بما هي رمز للتبعيّة الثقافيّة وامتداد للوصاية الفرنسية على بلادهم.

صور شعارات الجزائريين المعادية لفرنسا

ورفعت الشعارات في جمعات الغضب داعية إلى استئصال “حزب فرنسا” المتكون من أتباعها ووكلائها ممن لا يزالون الى اليوم يدافعون عن المصالح الفرنكوفونية في الجزائر.

وقد تُوجت مطالب الحراك الشعبي الجزائري بإعلان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية عن مشروع لإصلاح الجامعة، يرتكز على الانفتاح على اللغات الأجنبية خصوصاً الإنجليزية حيث قررت الحكومة الجزائريّة في 24 جويلية 2019 تغيير لغة المراسلات الرسميّة في الجامعات من الفرنسيّة الى الانجليزيّة، وذلك لـتحسين مرئيّة نشاطها البحثي ودفعها للانفتاح على المحيط الدولي.

وحول استبدال لغة التدريس من الفرنسية إلى الانجليزية أظهرت نتائج استطلاع وطني أطلقته وزارة التعليم العالي الجزائرية على منصتها الالكترونيّة في جويلية 2019، أن 94.4 % من طلبة الجامعات يرغبون في اعتماد اللغة الإنجليزية في المناهج الجامعية.

كما أعلنت أيضا وزارة التربية والتعليم الجزائرية في وقت لاحق إلغاء امتحان مادة اللغة الفرنسية من امتحانات الترقية المهنية في القطاع للمرة الأولى منذ استقلال الجزائر.

وفي قرار غير مسبوق أقصت الحكومة الجزائريّة اللغة الفرنسيّة من اللغات التي حددتها لتقديم دروس للتلاميذ والطلبة عبر القناة التلفزيّة التعليميّة التي أطلقتها في 2020 حيث وقع اعتماد 3 لغات فقط وهي العربية والانجليزية والصينيّة.

أما في أكتوبر 2020 فقد أعطى مجلس الوزراء الجزائري الضوء الأخضر لافتتاح أوّل مدرسة بريطانيّة وتعهد مؤسسها “جراهم ماكفوي” بتقديم “أفضل ممارسة تعليميّة وتثقيفيّة دوليّة لا تتجاهل تعليم اللغة العربيّة وتركز على احترام خصوصيّة الثقافة الجزائريّة“، وفق تعبيره.

الارتهان اللغوي للفرنسية في تونس هو أحد مظاهر الارتهان الاقتصادي

الأمين البوعزيزي

وكان نزيف اللغة الفرنسيّة في الجزائر قد سجّل بداياته الأولى على الصعيد الرسمي عام 2015  عندما اتخذت وزارة الدفاع الجزائري قرارا مفاجئا بتغيير لافتة مقر الوزارة بالعاصمة واستبدالها بأخرى مكتوب عليها “وزارة الدفاع الوطني” باللغتين العربية والإنجليزية بدل الفرنسية، لتتبعها فيما بعد إدارة البريد الجزائري أواخر العام 2017 وذلك بإلغائها استعمال اللغة الفرنسية في جميع وثائقها الرسمية واستبدالها باللغة العربية، ثم أعقبه قرار ثالث من المحكمة يجبر الشركة الوطنيّة للكهرباء والغاز “سونلغاز” بتعريب جميع فواتيرها.

ويتواصل التوجه الرسمي نحو إقصاء اللغة الفرنسيّة من الوزارات الجزائريّة باستبدال وزارتي الخارجيّة والشباب والرياضة اللغة الفرنسيّة بنظيرتها الانجليزيّة وذلك في شعارهما الجديد الذي وقع اعتماده في شهر فيفري المنقضي.

صورة شعارا وزارة الخارجيّة والشباب والرياضة الجزائريتان

ولم يكن لهذا التوجّه الجزائري أن يتعزّز لولا تماهي المطالب الشعبيّة مع الإرادة السياسيّة خاصة عندما تعهّد الرئيس الجزائري عبد المجيد بن تبون في برنامجه الانتخابي بأن “يجعل من اللغة الإنجليزية اللغة الثانية في البلاد”.

وهو ما جعل ناقوس الخطر يدّق في فرنسا ودفع بسفيرها السابق في الجزائر “كزافييه درينكورت” إلى الخروج عن صمته في جويلية 2019 والتعبير عن “مخاوفه على مكانة لغة بلاده في الجزائر”، ورغبته في “الحفاظ على العلاقات بين البلدين خصوصاً في المجال التعليمي” وتطوير ما وصفه بـ “الإرث المشترك”.

وهي ذات المخاوف التي حملها تقرير مرصد اللغة الفرنسيّة التابع للمنظمة الدوليّة للفرنكوفونية والذي صدر مباشرة بعد الحراك الشعبي في فيفري 2019 حيث ذكر أن الجزائر تراجعت الى المركز الثالث من حيث عدد المتكلمين باللغة الفرنسيّة بين دول شمال افريقيا بنسبة تقدّر بـ 33% (13 مليون جزائري) بعد أن كانت تحتّل الصدارة عام 2016 هذا فيما احتلت تونس المرتبة الأولى بنسبة 52% تليها المغرب بنسبة 35%.

تونس والمغرب ينتفضان.. رغم الصعوبات

إن كانت مؤشرات السقوط الفرنسي أقلّ حدّة في تونس والمغرب إلا أنّ مسائل مثل الهويّة والسيادة اللغويّة ما فتئت تطرح فيهما خاصة مع احتدام الجدال بين فريق يرى في اللغة الفرنسيّة “غنيمة حرب” تمكن الشعوب من الانفتاح على العالم وثقافاته وآخر يصفها بالتركة الثقيلة ويعتبرها أداة لتكريس التبعيّة لفرنسا.

فقد ظلّ مستوى اتقان اللغة الفرنسيّة يشهد تراجعا في المنظومة التربويّة التونسيّة وهو ما فسّر حصول 7 آلاف تلميذ على علامة صفر في امتحان مادّة الفرنسيّة في باكالوريا 2017، هذا فيما تصدّرت تونس الترتيب العربي من حيث اتقان اللغة الانجليزيّة وفق تقرير “التربية أوّلا” لعام 2017.

كما تصاعد بعد الثورة التونسيّة التيّار المنادي بالتعريب الذي بدأه الوزير الأول الراحل “محمد مزالي” في مجال التعليم، وتعزز خلال التسعينيات في الإدارة ورغم أنه ظلّ محلّ جدل واسع بين مؤيد ومعارض إلا أنه استطاع أن يفرض نفسه في بعض المواقع عندما أصدرت بلديّة تونس قرارا بتعريب اللافتات التجاريّة الموضوعة على واجهة المحلاّت.

معركتنا الحقيقيّة مع الفرنكوفونية بما هي منفذ للهيمنة الايديولوجيّة

الأمين البوعزيزي

وفي هذا الخصوص، أكدّ أحمد بوعزي عضو المجلس البلدي وصاحب المبادرة، أن هذا القرار يهدف إلى دعم الهوية العربية في تونس وتخليص المدينة من جميع أشكال الاستعمار الفرنسي، معتبرا أن اللغة العربية هي من بين المظاهر الهامة التي تعرّف بهوية شعب ما في مدينة ما.

وفي ذات الصدد، يقول الأمين البوعزيزي لـ “ضاد بوست” “إنّه يجب علينا التفرقة بين الفرنكوفونية والفرنكفوليّة حيث أنّ معركتنا الحقيقيّة ليست مع اللغة الفرنسيّة بما هي أداة للتواصل بل مع الفرنكوفونية بما هي ايديولوجيا مهيمنة على مفاصل الدولة، وقد استطاعت الثورة التونسيّة التي فتحت مجالات واسعة لحريّة التعبير أن تصعّد من الأصوات الشعبيّة المنادية بالتحرّر من هذه السيطرة الفرنكفوليّة والرافضة لهيمنة اللغة الفرنسيّة على حساب اللغة العربيّة في مجالاتها السياديّة”.

ويضيف محدثنا أنه من الجانب المعرفي الأكاديمي أصبح من الملاحظ اليوم في تونس توجه العديد من الجامعات الخاصة إلى اعتماد اللغة الانجليزيّة في تدريس مناهجها العلميّة وذلك لكونها اللغة التي تسيطر على جلّ الوثائق والمراجع وادراكها انه لا حاجة لوسيط فرنسي لترجمة البحوث العلميّة المكتوبة بالانجليزيّة.

الخوف ليس من الفرنكوفونية بل المعركة ضدّ الفرنكوفولية

الأمين البوعزيزي

ووصف البوعزيزي المحاولات الفرنسيّة لإحياء لغتها في مواجهة اللغة الانجليزيّة “بالتجديف ضدّ العدم” و“المعركة الخاسرة سلفا” لأن الفرنسيين وان استطاعوا عبر السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة على مقدرات الشعوب أن يضمنوا هيمنة الفرنسيّة على اللغة الوطنيّة في تونس وهي العربيّة إلاّ أنهم لن يستطيعوا الصمود أمام اللغة الانجليزيّة بما هي لغة العلم والمعرفة… “وتونس في طريقها إلى الانجليزيّة رغما عن هيمنة القرار الفرنكوفولي لأنّ المسألة تحوّلت إلى قرار مصيري فإمّا أن ترتبط بالمعرفة وإمّا أن تنقطع عنها”

وأكدّ محدثنا أن هذه الجهود الشعبيّة في فكّ الارتباط بالثقافة الفرنكفوليّة لا يمكنها أن تترجم على مستوى رسمي إلاّ إذا ترافقت مع ارتباط تونس بمشروع حضاري آخر يمكنها من مفاتيح السيادة وذلك بالأساس عبر فك الارتهان للاقتصاد الفرنسي وتعزيز العلاقات الاقتصاديّة منع بلدان المغرب الكبير مثل ليبيا والجزائر.

أما في المغرب فقد تعالت الأصوات الشعبيّة ضدّ الحضور القوي للغة الفرنسيّة في التعليم والإدارة والاقتصاد حيث أطلق ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حملة فايسبوكيّة في ربيع 2018 حملت اسم “لا للفرنسيّة.. نعم للإنجليزية في المغرب” مطالبين الحكومة تعويض اللغة الفرنسيّة بالإنجليزية في النظام التعليمي.

الثورة في تونس أطلقت الأصوات الشعبية الرافضة لهيمنة اللغة الفرنسيّة على المجالات السياديّة

الأمين البوعزيزي

وقد شهدت هذه الحملة انتشارا واسعا وسريعا خاصة مع إقبال الشباب المغاربة على اللغة الانجليزيّة وعزوفهم عن نظيرتها الفرنسيّة، وهو ما أكدته صحيفة لوموند الفرنسيّة مستهل شهر سبتمبر 2020 حيث بيّنت أنّ شغف تلاميذ المرحلة الثانويّة بتعلّم اللغة الانجليزيّة أدى إلى توسع رقعة انتشار المراكز التعليميّة الناطقة بها في المدن الكبرى.

وقالت الصحيفة إنّ اللغة الانجليزيّة دخلت في “منافسة حقيقيّة” مع نظيرتها الفرنسيّة مؤكدة أن “المؤسسات الناطقة بالإنجليزية بالمغرب هي الثانية في العالم العربي بعد لبنان”.

شعار حملة “لا للفرنسيّة.. نعم للإنجليزية في المغرب”

وكانت وزارة التعليم العالي قد عممت مذكرة في 2016 على الجامعات المغربية بشأن اعتماد الإنجليزية في مناقشة بحوث الدكتوراه وذلك بهدف “النهوض بالبحث العلمي بالجامعات وتحسين مخرجاتها والاستفادة من نتائجها بمختلف أنواعها” وفق ما صرّح به وزير التعليم العالي المغربي حينها.

وفي ذات السياق، عبّر رئيس الحكومة المغربيّة الأسبق “عبد الإله بن كيران” عن رغبته في تحويل السياسة التعليمية نحو اللغة الإنجليزية، قائلًا إن “الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة، وإذا كنا سنختار، فإننا يجب أن نختار الإنجليزية؛ لأنها لغة العصر والعلم والتجارة، ولا أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تعلم الإنجليزية جيدًا”.

ومقابل هذا “التمرّد اللغوي” كثفت فرنسا من حملاتها الديبلوماسيّة لتدعيم الثقافة الفرنكوفونية في المغرب العربي وهوما طبع زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى تونس في جانفي 2018 حيث قال في خطابه داخل البرلمان التونسي إن “اللغة الفرنسية لم تعد ملكًا لفرنسا فقط، بل هي ملك لكل من يتكلمها”، وطالب التونسيين بالحفاظ عليها “لأنها جزء منهم ومن تاريخهم” على حد قوله. معلنا تونس عاصمة للفرنكوفونية عام 2020.

وهي ذات الأجندة التي حملها ماكرون إلى المغرب في زيارته الرسميّة له صيف العام 2017.

ومن منطلق سعيها “إلى إقامة تعاون مع السلطات المحليّة بغية تعزيز مكانة اللغة الفرنسية في نُظمها التعليمية” – وفق ما ورد في الموقع الرسمي لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة – نجحت فرنسا في كسب جولة في صراع الهيمنة اللغويّة الذي تخوضه في المغرب وذلك بعد أن صادق البرلمان المغربي في 23 جويلية 2019 على القانون الخاص بتعزيز مكانة اللغة الفرنسيّة في التعليم عبر قرار استبدال اللغة العربيّة بنظيرتها الفرنسيّة في تدريس المواد العلميّة بالمرحلة الثانويّة.

الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة (…) يجب أن نختار الإنجليزيةعبد الإله بن كيران

أمّا في موريتانيا فقد اتخذ رئيس البرلمان الموريتاني الشيخ ولد بايه في شهر فيفري 2020 قرارا يقضي بمنع استخدام اللغة الفرنسية أثناء الجلسات وقال في معرض تسويغه لهذا القرار إنه “لا داعي لاستخدام اللغة الفرنسية بعد اليوم، فلدينا أربع لهجات وعلينا التخاطب بلهجاتنا الوطنية وهي الحسانية (لهجة مشتقة من العربية يتكلمها عرب موريتانيا)، واللهجات الزنجية الأخرى الولفية والبولارية والسوننكية”، مضيفا “ليس هناك مكان للغة الفرنسية هنا فلدينا لغاتنا ولهجاتنا”.

وتبعا لهذا القرار علق البرلمان الموريتاني جلسة علنية لبعض الوقت في نوفمبر 2020، عقب احتجاج أحد النواب على مداخلة لوزير في الحكومة أمام البرلمان باللغة الفرنسية.

ليس هناك مكان للغة الفرنسية هنا فلدينا لغاتنا ولهجاتنارئيس البرلمان الموريتاني

رواندا.. تتحرّر من الفرنسيّة

بالرغم من تقلّد وزيرة خارجيتها “لويز موشيكيوابو” منصب الأمانة العامة للمنظمة الدوليّة للفرنكوفونية، تعدّ رواندا من أبرز المستعمرات الفرنسيّة التي نجحت في قطع “الحبل السُرّي” الذي يربطها باللغة الفرنسيّة، نجحت البلاد في أقل من عشر سنوات في استبدال اللغة الفرنسيّة بنظيرتها الانجليزيّة.

وقد أعلن الرئيس الروندي “بول كاغاميه” عام 2010 تحول بلاده من اللغة الفرنسية الى اللغة الانجليزيّة وقال في خطاب له بهذه المناسبة “سنعطي الأولوية للغة التي تجعل أبناءنا أكثر كفاءة، وتخدم رؤيتنا لتنمية البلاد”، ومنذ ذلك الوقت أصبحت لغة شكسبير هي لغة التعليم والإدارة والاقتصاد في رواندا.

ورغم محاولات بعض الجهات الفرنسيّة للتشكيك في مدى نجاعة هذا القرار ووصفه بمجرّد “النزوة السياسيّة” والنزوع نحو “الانتقام”، يؤكد صناع القرار داخل رواندا ان التخلي عن الفرنسيّة يأتي استجابة لتطورات اجتماعيّة ومصالح اقتصاديّة وسياسيّة لم تعد ترى في استعمال لغة المحتل القديم أية فائدة.

سنعطي الأولوية للغة التي تجعل أبناءنا أكثر كفاءة، وتخدم رؤيتنا لتنمية البلادالرئيس الرواندي “بول كاغاميه”

الكيبيك.. تراجع “تاريخي” للغة الفرنسيّة

يبدو أن انحسار اللغة الفرنسيّة لم يقتصر فقط على القارة السمراء حيث انتفضت السلطات المحليّة في الكيبيك -إحدى معاقل اللغة الفرنسيّة في القارة الأمريكيّة- معلنة الخطر الداهم الذي تواجهه لغة “موليير في أراضيها.

ويعزو مراقبون ذلك إلى تراجع إقبال المهاجرين الجدد على تعلّم اللغة الفرنسيّة وتوجههم في المقابل نحو تعلم اللغة الانجليزيّة وهو ما دفع الحكومة الكنديّة مؤخرا إلى وضع خطط لدعم تعليم اللغة الفرنسيّة وزيادة عدد المهاجرين الناطقين بها في مختلف أنحاء البلاد.

وقد نشر عالم الاجتماع الكندي “تشارلز كاستونغواي” في شهر فيفري 2021 كتابا بعنوان “Le français en chute libre” (السقوط الحرّ للفرنسيّة) تحدّث فيه عن “التراجع التاريخي وغير المسبوق” الذي تشهده اللغة الفرنسيّة في “الكيبيك” منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

حيث “انخفض اعتماد اللغة الفرنسيّة في التخاطب اليومي بنسبة 80% منذ العام 1901 وذلك مقابل الاقبال أكثر فأكثر على الحديث باللغة الانجليزيّة”، وفق ما ذكره “كاستونغواي” في كتابه.

مقابلة تلفزيّة مع “تشارلز كاستونغواي” بشأن كتابه “Le français en chute libre”

وهكذا يتدافع العالم نحو “حروب حضاريّة” بأسلحة ناعمة ولكنها غالبا ما تكون فاتكة، فالمنتصر في معركة اللغة هو الذي سيكتب التاريخ ويقود العالم إلى ما يريد، ويبدو أن اللسان الفرنسي قد خسر الكثير من جنوده في هذه الحرب، بل إن الكثير منهم قد انشقّ عنه وأعلن ولائه لجيوش العدّو، فهل مازال من الممكن للثقافة الفرنكوفونيّة يا ترى، أن تلملم جثثها المتناثرة هنا وهناك؟  أم أنّ تلاشيها قد بات مسألة وقت لا أكثر؟

سؤال ربما تجيبنا عنه القمّة الفرنكوفونية المقبلة المنتظر عقدها في تونس والتي سيكون أمامها الكثير لتناقشه وتقف عنده.

إيناس جبير

صحفية حاصلة على الأستاذية من معهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة، سنة 2009 اختصاص صحافة مكتوبة. عملت في وكالة "بناء نيوز" والتلفزة الخاصة "قرطاج +"
زر الذهاب إلى الأعلى