ملفات

تونس.. انقلابات ناعمة تختبر مسار الثورة

شهد يوم 17 ديسمبر 2010 اندلاع الثورة التي أدّت يوم 14 جانفي 2011 إلى فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بعد نحو 23 عاما من الدكتاتورية التي كتمت على أنفاس كلّ العائلات السياسية في تونس.

وتعيش تونس منذ 10 سنوات اهتزازات كبرى ميّزت مسار الانتقال الديمقراطي، رغم أنّه لحماية ثورته من الإجهاض لم يهنأ الشباب الثائر بفرار المخلوع، فسعى عبر اعتصام “القصبة 1” واعتصام “القصبة 2″، إلى الإطاحة بحكومة محمد الغنوشي (الوزير الأوّل في نظام بن علي)، فتم تعيين حكومة الباجي قايد السبسي التي سيرت شؤون الدولة إلى حين استلام حكومة الترويكا الحكم بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011.

ولم تشهد تونس منذ استقلالها انقلابا بما يوحي اللفظ من افتكاك عسكريّ مسلّح لكرسيّ السلطة، لكنّها شهدت انقلابات ناعمة بواسطة “التحيّل” على فصول الدستور وكان أوّلها انقلاب 7 نوفمبر 1987 ولم يتدخل فيه الجيش، وقبل هذا الانقلاب الناجح، شهدت الساحة التونسية إثر الاستقلال محاولة انقلاب ضدّ نظام الحبيب بورقيبة كأحد ارتدادات انقسام الحركة الوطنية ومحاولة وأد الحركة اليوسفية آنذاك.

وعقب الثورة شهدنا محاولات إحياء النظام القديم بالتجريح في مخرجات الثورة وبروز حركات ظاهرها ضدّ التدهور الاقتصادي والاجتماعي وباطنها دولة عميقة تحرك رموزها لاستعادة مجدها ضائع.

فما وجاهة الحديث عن محاولات انقلاب جدت في تونس بعد الثورة؟

المقالات المتصلة

نوايا انقلابية

في خطاب متشنج أشبه بدرس في مدارج كلية الحقوق أدلى رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 18 أفريل 2021، بتحليله الدستوري والقانوني لتحديد الجهة التي يخضع إليها الجهاز الأمني المدني والعسكريّ، فضلا عن تفسير مطول لمعنى القوات المسلحة الراجعة إليه بالنظر دستوريا.

ذلك أنّ سعيد استغل إشرافه على الاحتفال بالذكرى الخامسة والستّين لعيد قوّات الأمن الداخلي في موكب بقصر الرئاسة بقرطاج، فتكلّم “منفردا” موضحا أنّ القوّات الحاملة للسلاح لا تشمل فقط القوّات العسكريّة وإنّما تشمل أيضا القوّات المدنيّة الحاملة للسلاح بما فيها الأمن الوطني والحرس الوطني والديوانة باعتبارها قوّات حاملة بدورها للسلاح أي “قوّات مسلّحة”.

وردّد “إذا رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية”، مشددا على أنّ ما يقوله ليس تأويلا للدستور إنّما الحقيقة الدستورية المطلقة.

وقد أسال خطاب سعيد الكثير من الحبر، وذهب معظم الفاعلين في الوسط السياسي إلى أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد يسعى إلى الاستفراد بالسلطة عبر التعسّف على نصّ الدستور تمهيدا إلى انقلاب ناعم على السلطة، معتبرين أنّه الخطاب الأخطر لسعيد الذي انتهج التشنج وافتعال الأزمات في كلّ خطاباته مذ توليه رئاسة الجمهورية.

رئيس الجمهورية قيس سعيد يفسر معنى القوات المسلحة

واعتبر أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك أنّ حديث سعيد “استهتار وفاتحة انقضاض على دولة القانون”.

وقال بن مبارك في تدوينة نشرها على الفيسبوك “بكلّ صدق وتجرّد وعقلانية يقتضي الحال وقفة صارمة من كلّ القوى السياسية والمدنية المؤمنة بالديمقراطية والرافضة لوقع أقدام العسكر”.

ورأى المحامي والمحلل السياسي عبد اللطيف دربالة في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية أنّ “قيس سعيّد رجل مهووس بالسلطة كما هو واضح”.

وتابع دربالة “هو (قيس سعيد) في كلّ يوم يحاول قضم جزء جديد من السلطة لحسابه الخاصّ.. وفي كلّ مرّة عبر استعمال تأويل مطّاطي جديد للدستور على قياس رغبته المتعطّشة للحكم الفردي”.

من جانبه، اعتبر رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف في قراءته لخطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد، أنّه “كارثي ولا يجب السكوت عنه”، وذلك في مداخلة له خلال جلسة عامة للبرلمان يوم الاثنين 19 أفريل 2021.

ورأى مخلوف أنّ سعيد يتعمد تقسيم التونسيين وهذا خطير على السلم الاجتماعي، وأنّ رئيس الجمهورية يبحث عن ذاته من خلال الخطابات في الثكنات وأمام الأمن والقيادات العسكرية.

أمّا القيادي في حزب الأمل أحمد نجيب الشابي، فقال في تدوينة على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” إننا “نشهد منذ مدة على الهواء مباشرة انقلابا ناعما على السلطة يقوده رئيس الجمهورية، تمثلت حلقاته الاولى في تعطيل تشكيل الحكومة ثم في الاعتراض على قيام المحكمة الدستورية وأخيرا في إعلان رئيس الجمهورية توليه رئاسة قوات الامن الداخلي بمناسبة الذكرى 65 لتأسيسها”.

وأردف الشابي “الانقلاب ليس بالضرورة عملا عسكريا، وإنما يعرفه فقهاء القانون الدستوري بأنه “عمل تسلطي غير شرعي من شأنه النيل من قواعد تنظيم الهيئات القائمة أو من سير اعمالها أو صلاحياتها”.

واعتبر القيادي في الحزب الجمهوري عصام الشابي أنّ “ما تضمنه خطاب رئيس الجمهورية (..) يعد خروجا عن نص الدستور وروحه ومحاولة لتوسيع سلطاته على خلاف ما نص عليه الدستور”.

بدوره، اعتبر الباحث سامي براهم أنّ خطاب سعيد “سطو على الصّلاحيّات الأمنيّة بتأويل انفراديّ متعسّف للدّستور … عمل جنونيّ أشبه بالانقلاب وتكريس الحكم الفرديّ واحتكار السّلطة من جديد … ودقّ طبول الاحتراب الأهلي”.

ولم يخف أستاذ التاريخ المعاصر ومدير الديوان الرئاسي الأسبق عدنان منصر، تخوفه مما جاء في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد معتبرا أنّه “الخطاب الأخطر”، متسائلا “إلى أين يأخذنا الرئيس؟ ما أصبحت واثقا منه، ومن خلال المؤشرات المتواترة، هو رغبته في السيطرة على كل المؤسسات، وانعدام أي رؤية موضوعية لديه لسبل تحسين الوضع. هذا يعني ببساطة أن الأمر لن يتجاوز ترسيخ حكم فردي بلا مضمون اجتماعي وبلا رؤية اقتصادية والأدهى من ذلك، في سياق نظرة ثقافية واجتماعية محافظة لم تنتج، تاريخيا، سوى المأساة تلو الأخرى”.

رواية “الأطراف” !!!

لم تخل خطابات رؤساء الجمهورية عقب الثورة من التصريح أو التلميح إلى محاولات انقلاب على السلطة الشرعية وإثارة الفوضى، لكنهم جميعا لم يعلنوا صراحة من يقف وراء هذه الفوضى التي تهدد الأمن العام للبلاد.

وأحد هذه الخطابات كانت على لسان رئيس الجمهورية قيس سعيد، حيث أكّد يوم 10 فيفري 2021، خلال تطرقه إلى أزمة التحوير الوزاري في اجتماعه بعدد من نواب البرلمان، وجود دعوات للاستنجاد ببعض ممثلي الدول الأجنبية في تونس.

وقال سعيّد “أعلم علم اليقين ما يحصل من دعوة بعض ممثلي الدول الأجنبية للاستنجاد بها”، دون أن يكشف عن الأطراف أو الشخصيات التي صدرت عنها هذه الدعوات ولا الدول التي لجؤوا إليها.

وتابع قوله “نحن وطن حر ومستقل قضيتنا وطنية ولا دخل لأي طرف أجنبي فيها”.

وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 23 جوان 2020، عرّج في حوار أجراه على قناة “فرانس 24” على ما تردّد عن محاولة انقلاب على الشرعية في تونس، وقال سعيد إن “هناك فعلاً من تآمر على تونس في الآونة الأخيرة للانقلاب على الشرعية فيها”، مضيفاً: “هناك مؤشرات كثيرة حول تدخّلات خارجية من قبل قوى تحاول إعادة تونس إلى الوراء، وهناك من أراد أن يتواطأ معها من الداخل”.

وتابع سعيد: “لدي من المعلومات الكثير وأخفيتها حتى عن المقربين لأنني لا أرغب في تأزيم الأوضاع، ولكني أعلم الكثير مما يعتقدون أنني لا أعلمه”.

وكشف سعيد عن امتلاكه لمعلومات حول تدخلات قوى خارجية في تونس لمحاولة إعادتها إلى الوراء وذلك بالتواطؤ مع أطراف من الداخل التونسي، لكنه رفض الكشف عن أية تفاصيل.

وإنّ الإشارة إلى “الأطراف المتآمرة على أمن تونس” نجد له أثرا في كل خطابات رئيس الجمهورية قيس سعيد من توليه رئاسة الجمهورية، لكنّه يعد في كلّ مرّة بكشفها ولم يكشفها إلى حدّ كتابة هذه الأسطر.

كذلك تكرر لفظ “الانقلاب” في خطابات الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، ذلك أنه كشف وجود محاولة للانقلاب على السلطة الشرعية في تونس عام 2013، وذلك في حوار على قناة “فرانس 24” بتاريخ 30 ماي 2016، وأنّه لولا وجوده لتكرر السيناريو المصري (انقلاب عسكري قاده المشير عبد الفتاح السيسي ضدّ رئيس الجمهورية المنتخب محمد مرسي بدعم من اعتصام تقوده حركة “تمرد”).

ونوّه المرزوقي إلى علمه بأطراف المؤامرة (لم يذكرهم ولم يشر إلى من يقف ورائهم) ودلل على كلامه بمجموعة من الشواهد منها محاصرة المجلس التأسيسي ونداءات متكررة للجيش بالتدخل وعدم اعتراف بعض الأطراف (في إشارة إلى اعتصام “الرحيل”) بشرعية رئيس الجمهورية وأنه يجب أن يتنحى والدعوات عبر وسائل الإعلام إلى التمرد وعدم دفع الفواتير والدعوة إلى التمرد يوم 6 سبتمبر 2013 واحتلال مقرات سيادية في البلاد.

وتساءل المرزوقي “ماذا تعني كل هذه الأمور؟”، مذكرا أنه كان بإمكانه الإعلان عن أطراف المؤامرة ووضعهم في السجون لكنه فضل المناورة “لأن الحرب خدعة وكذلك السياسة أخدع الحروب”، وفق تعبيره.

منصف المرزوقي: وجودي منع وقوع انقلاب عام 2013

وفي هذا السياق، رأى الأمين البوعزيزي وهو ناشط سياسي وباحث جامعي في الأنثروبولوجيا الثقافية، أنّ تونس لم تشهد انقلابا بما تحيل إليه الكلمة في أذهاننا، موضحا في اتصال هاتفي جمعه بـ”ضاد بوست” أن “ما نتابعه هو الحديث عن محاولات انقلاب لكن كلمة الانقلاب في ذهننا تحيل دائما إلى تحرك للجيش، وهذا ما لم نشهده، فعلى الأقل مؤسسة الجيش التونسي منذ التأسيس بقيت المؤسسة ربما الوحيدة التي طلبت التنصيص في الدستور الجديد على حياديتها”.

وتابع قائلا إنّ “مفهوم الانقلابات إذا خلصناه من مفهومه العسكري فهي محاولات انقلابية لكن إذا كلمة انقلاب تعني تحرك عسكري فما جرى في تونس ليس انقلابا”.

المتضررون من الديمقراطية يحرضون على الانقلاب

الأمين البوعزيزي

شبهات الدعم الإماراتي

الإمارات ودورها في دعم الثورة المضادة في تونس، محور تناقلته الكواليس السياسية حتى أصبح أقرب إلى الحقيقة، خاصة بعد ظهور رئيس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي أثناء حملته الانتخابية سنة 2014 يمتطي سيارتين مصفحتين كـ”هدية” إماراتية سخيّة، فضلا عن دعم هذه الدولة الانقلاب العسكري في مصر ومباركة انقلاب الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر ودعم نظام بشار الأسد ضدّ الشعب السوري والإمارات هي الشريك الأكثر أهمية للتحالف العسكري العربي في اليمن، حيث تقدم دعماً للقوى الانفصالية في جنوبه.

ونظرا إلى أنّ حركة نداء تونس ضمت عددا كبيرا من وجوه النظام السابق فقد اعتبرت “الهدية الإماراتية” دفعا نحو إسقاط الثورة وإحياء الدكتاتورية، ففي سنة 2014 راهنت الإمارات على الباجي قايد السبسي وحركة نداء تونس لبسط نفوها في تونس منطلق الثورات التي عصفت بعدد من الدكتاتوريات العربية، إلا أنها صُدمت بالتوافق بين حركة النهضة وحركة نداء تونس.

والملاحظ أن الإعلام الإماراتي اتخذ موقفا معاديا للثورة التونسية منذ قيامها، فضلا عن شن حملات إعلامية ضد مخرجات الصندوق في انتخابات 23 أكتـوبر 2011، واصطفافها إلى جانب الثورات المضادة في كلّ بلدان الربيع العربي.

وفي حوار أدلى به في برنامج “وحش الشاشة” على قناة التاسعة مساء يوم 7 فيفري 2021، قال العضو السابق في حركة نداء تونس لزهر العكرمي، إن حزبه تحصل على حوالي 40 مليون دولار من دولتين عربيتين (لم يسمهما).

فيديو الأزهر العكرمي

وفي حوار لقناة الجزيرة يوم 2 جوان 2020، قال رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي إن “تجربة تونس باتت تقضّ مضاجع الانقلابيين والفوضويين، وما تشهده من حملات تحريض وصناعة لأوهام عن احتجاجات في تونس في وسائل إعلام أجنبيّة مشبوهة، هو دليل إضافي على ما تجابهه التجربة التونسية من مشاريع تخريب”.

وتابع رئيس البرلمان قائلا “المتابعون للأحداث والتطورات، ليس في تونس فقط بل في المنطقة بأسرها، يلاحظون دونما عناء ما يتمّ التخطيط له لإفساد موجة الربيع العربي ومحاولة تشويهها وترذيلها عبر دعم الإعلام المشبوه وشنّ حملات التحريض والشيطنة، بل بلغت الهجمة حدّ تأجيج الصراعات والحروب الأهليّة ودعم المرتزقة ومليشيات الهدم والتخريب وتمويلهم بالأموال والسلاح والعتاد لضرب استقرار الدول التي حدثت بها ثورات شعبيّة وللإطاحة بالحكومات الشرعيّة، كما هو الحال اليوم في ليبيا، وإعادة المنطقة إلى الانقلابات وحكم العسكر، وهذا الأمر في الحقيقة ليس بجديد، فهو متواصل منذ العام 2011، وشهد أطوارا مختلفة”.

وقال الغنوشي إنّ “ما يجب أن يعلمه الجميع أنّ بلادنا اليوم باتت محصّنة أكثر من أيّ وقت مضى ضدّ قوى الردّة ودعاة الفوضى والانقلابات، فالتونسيّون متمسّكون بثورتهم، وأصبحت الأغلبية منهم مقتنعة بأنّ باب التغيير والتعديل ممكن عبر صناديق الاقتراع”.

وحسب موقع “العربي بوست”، دفعت الإمارات لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي يوم 6 جوان 2020 أكثر من نصف مليار، وهي قيمة الضرر المادي الذي لحقه في قضية الادعاء بالباطل التي ربحها الغنوشي في بريطانيا ضد مجلة يديرها إماراتي ومقرها لندن.

وأعلن مكتب رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي، الخميس 28 ماي 2020، أن محكمة العدل العليا في العاصمة البريطانية لندن، أصدرت حكماً لصالح الغنوشي ضد موقع الشرق الأوسط أونلاين “Middle East Online”.

وأوضح بيان لمكتب رئيس مجلس النواب أن القضية التي حُكم فيها لصالح الغنوشي رُفعت ضد محرر الموقع، المحسوب على الإمارات، هيثم الزبيدي، والذي يتخذ أيضاً من العاصمة البريطانية لندن مقراً لموقعه، بخصوص مقال نُشر في 5 جويلية 2019.

وزعم المقال أن الغنوشي “يدّعي إيمانه بالديمقراطية، في حين أنه يقود حزباً يمثل واجهة لمنظمة إرهابية، ويتسامح مع الإرهاب ويشجعه ويدعمه بنشاط في تونس وفي الخارج وأنه سمح لحزبه باستلام أموال من دولة قطر، مما سهَّل لقطر ممارسة تأثير سلبي على السياسة التونسية”.

من جهته، أفاد النائب عن حركة النهضة نور الدين البحيري في تصريح لإذاعة “إكسبراس أف أم” يوم 30 جويلية 2020، أن أجندة إقليمية وعربية خاصة الإمارات العربية ومصر تقف وراء لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي.

وقال إن سبب طلب سحب الثقة هو الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس البرلمان، راشد الغنوشي مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، مشيرا إلى أنّ “هناك موقف إقليمي معاد للثورة التونسية والديمقراطية في تونس وليبيا”.

وردا عن سؤال بخصوص الأدلة التي تثبت اتهاماته، أكد البحيري أن وسائل الإعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعية الإماراتية قامت بدعاية ضد رئيس البرلمان بشكل خاص والديمقراطية التونسية بشكل عام، وأنه لا يمكن لأحد أن ينكر تدخل الإمارات في تونس.

وتابع البحيري “كنت أتمنى لو أن لسفارة الإمارات في تونس والحكومة الإماراتية أعلنوا أنهم بمنأى عن أي تدخل في تونس، وأنكروا تصريحات وزير الخارجية وما تنشره الصفحات الممولة من أجل تحديد موقف البلاد الرسمي”.

وكان تقرير فرنسي كشف بتاريخ 11 جوان 2018 تفاصيل محاولة انقلابية فاشلة في تونس خططت لها دولة الإمارات العربية المتحدة، لإسقاط النظام الديمقراطي في البلاد.

وذكر أنّ وزير الداخلية المقال لطفي براهم (حكومة يوسف الشاهد) التقى سراً مسؤولاً في المخابرات الإماراتية بجزيرة جربة وخططا معاً لـ”انقلاب” على السلطة في تونس، وبيّن التقرير أن جهات استخباراتية فرنسية وألمانية وجزائرية هي من كشفت المخطط الإماراتي وأبلغت السلطات التونسية تفاصيله.

وأوضح أن اللقاء جرى عقب عودة مسؤول المخابرات الإماراتي من لقاء تمهيدي لقمة باريس بشأن ليبيا، نظَّمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 29 ماي 2018.

وفي التفاصيل، جاء أنه خلال اللقاء اتفق المسؤولان التونسي والإماراتي على خريطة طريق كان يُفترض أن تُدخل تغييرات جذرية على رأس السلطة في تونس، منها إقالة رئيس الوزراء يوسف الشاهد، وتعيين وزير دفاع بن علي السابق، كمال مرجان، رئيساً للحكومة، وعزل الرئيس الباجي قايد السبسي لاعتبارات مَرَضية، في سيناريو مشابه لانقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على الرئيس السابق الحبيب بورقيبة سنة 1987.

صورة من الحوار الوطني 2013

وكشف التقرير أن لطفي براهم تقرب من عدد من السياسيين منهم رضا بلحاج ( استقال من نداء تونس) وآخرين بعضهم تلقوا تمويلاً من الإمارات وحاولوا “إعادة تشكيل” المعادلة السياسية، فحاولوا نسج تحالف مع حافظ قايد السبسي، الذي تجمعه علاقة متشنجة برئيس الحكومة يوسف الشاهد.

وأفاد التقرير أن من بين الأهداف الأساسية للمخطط الإماراتي، كان استبعاد حركة النهضة نهائياً من الحياة السياسية في تونس.

ونستذكر أنّه في 26 أفريل 2019 عقد الحزب الدستوري الحرّ ندوة صحفية، توسط حضورها السفير الإماراتي بتونس، راشد محمد جمعة المنصوري، الذي واكب تقديم عبير موسي برنامج حزبها الاقتصادي والاجتماعي في المرحلة القادمة.

وأحدث هذا الحضور ضجة كبرى باعتبار أنّ حضور السفير لندوة صحفية لحزب هو مخالفة صريحة للأعراف الدبلوماسية، كما أن من استضاف السفير هي رئيسة الحزب التي طالما اتهمت أحزاب بالعلاقات مع دول أجنبية.

وتورطت عبير موسي مع السفير الإماراتي نفسه، إذ غضب المنصوري من تعاطي الإعلام التونسي مع حضوره الندوة السابقة. بيد أن هذا الموقف لم يزعزع ثقة الإماراتيين في عبير موسي إذ يولي الإعلام الإماراتي اهتمامًا كبيرًا بتحركاتها وتقديمها على أنها “الشخصية السياسية المثالية التي تحظى بإعجاب التونسيين”.

وورد اسم موسي في وثيقة سرية كشفت عن سعي الإمارات لإعادة رموز نظام بن علي إلى الواجهة ضمن خطة كاملة تقودها جهات معادية لثورات الربيع العربي؛ لضرب المسار الانتقالي في تونس.

وفي هذا الإطار، تحدث الأكاديمي والناشط السياسي طارق الكحلاوي عن وجود “تقارير إعلامية إماراتية مكثفة ومنتظمة تصل إلى حد الترويج إلى سيناريو اغتيال عبير موسي تحيل إلى دعم رسمي إماراتي لها”.

ودوّن الكحلاوي على حسابه الشخصي قائلا إنه لاحظ في البرلمان الأوروبي وجود حملة ضغط ومناصرة (لوبيينغ) لمصلحة عبير موسي وحزبها خاصة منذ بداية 2019 من قبل ناشطة بلجيكية تونسية تدعى منال المسلمي تحمل صفة وهمية هي مستشارة البرلمان الأوروبي.

وأضاف أن هذه الناشطة تتمتع بـ “دعم شبكة علاقات يتيح لها الولوج للمؤتمرات واجتماعات البرلمان الأوروبي”، مبينًا أن من بين مداخلاتها الترويج لدور موسي في “كشف تمويل قطري وتركي لحزب النهضة”.

وقال الكحلاوي إن المسلمي هي عضو في الحزب الدستوري الحر وهي من قامت بزيارة للكنيست الإسرائيلي تحت عنوان “نشر السلام” في ذات الفترة التي قصفت فيها إسرائيل أهالي قطاع غزة.

وأكد وجود دعم لعبير موسي من الإعلام الإماراتي ولوبيينغ في بروكسيل يقوده مطبعون مع الكيان الصهيوني، معتبرًا ذلك مؤشرات “على ماهية الدعم الخارجي لرأس حربة العداء الصريح للديمقراطية والنوستالجيا لعهد الاستبداد”، حسب وصفه.

ودعا إلى تشريع قانون خاص لكشف تمويل الأحزاب بشكل جدي وخاصة يضمن منع أي تمويل خارجي من أي مصدر، وفق قوله.

ولا تخفي موسى إعجابها وولاءها للإماراتيين، وسبق كُشِف وجودها ضمن الذراع السياسي لشبكة مصالح إماراتية في تونس تعمل على إفشال الانتقال الديمقراطي الذي تشهده البلاد منذ سقوط نظام بن علي في جانفي 2011.

وفي هذا الصدد، أقرّ الباحث والناشط السياسي الأمين البوعزيزي في تصريحه لـ”ضاد بوست”، أنّ “كل الثورات تعقبها ثورات مضادة، ذلك أنّ محيط الثورة التونسية وخاصة الممالك العربية الخائفة من أن تطرق هذه الثورات أبوابها، خاضوا ضرورة حربا مضادة ومولوا انقلابات كانت بشكل كثيف جدا في مصر والثورة في سوريا سلحوها لتدميرها، كذلك الثورة في البحرين سحقوها بالدبابات، ونفس الشيء في الأردن”.

أسباب فشل الانقلابات في تونس

وأوضح أنّ الأمر مختلف في تونس، قائلا “لم يكن ممكن أن يسحقوا الثورة بالدبابات وبالدم، باعتبار أن تونس ذهبت إلى انتقال ديمقراطي أكثر منه ثورة جذرية فتم تمويل الأحزاب التي تمتعت بمساحة من الحرية أتاحتها الثورة، بالتالي مولتهم للانقضاض على الثورة باسم الديمقراطية، على غرار نداء تونس واعتصام “الروز بالفاكية” (اعتصام الرحيل) اللذان مولتهما الإمارات”.

وتابع أنّ “الثورة التونسية لم تدخلها جيوش لتدميرها بل جوبهت بتمويلات ضخمة بالمليارات وفضائيات على مدار الساعة، إذ ما نشاهده في الفضائيات الإماراتية عما يجري في تونس مثير للضحك وللتساؤل في آن واحد، فكل العالم يعتقد أن ما يجري في تونس كما تصوره تلك الفضائيات وهو غير صحيح”.

الممالك العربية الخائفة من الثورة خاضوا حربا مضادة ومولوا الانقلابات

الأمين البوعزيزي

وفي مطلع شهر مارس 2021 ظهرت فضيحة “هبة التلاقيح الإماراتية” المتمثلة في 500 جرعة من لقاح مضاد لكورونا التي تلقتها رئاسة الجمهورية دون علم رئاسة الحكومة والبرلمان ووزارة الصحة ومعهد باستور ولجنة قيادة الحملة الوطنية للتلقيح ضد كوفيد-19، طرحت التساؤلات عن الهدف من وراء هذه “الهدية” السخية والمقابل الذي طلبته الإمارات كمقابل من رئيس الجمهورية قيس سعيد.

ولم تعرف إلى الآن مآل هذه اللقاحات، لكن التساؤل الأبرز هو ما المقابل الذي تريده الإمارات؟

ويوم 2 مارس 2021، نقل موقع “الشروق أون لاين” عن مصادره أن مديرة الديوان الرئاسي الوزيرة نادية عكاشة سافرت الي إيطاليا عبر مطار تونس قرطاج في زيارة سرية ورافقها حارسان من الأمن الرئاسي.

وأكد مصدر “الشروق اون لاين” أن نادية عكاشة تمسكت بالمرافقة الأمنية رغم أنها ليست من نواميس الدولة وليس من حقها أن تتنقل إلى دولة أجنبية تحت الحراسة الأمنية حيث يقوم أعوان الأمن الرئاسي بالسفر لحماية رئيسي الجمهورية والحكومة فقط.

وأكد مصدر “الشروق أون لاين” أن الوزيرة عكاشة ستلتقي بمسؤولين إماراتيين في روما، مضيفا أن تونس ستعيش في هذه الفترة أسوء فتراتها الدبلوماسية، على حد تعبيره.

وأفادت “الشروق أون لاين” أنها حاولت الاتصال برئاسة الجمهورية ولم يتسن لها الحصول على أي إجابة عن سبب سفر نادية عكاشة سرا لإيطاليا وتحديدا روما.

وفي معركة داخلية يخوضها مؤيدو قيس سعيد خلال حملته الانتخابية، تمخّض حزب “الشعب يريد” الذي نفت رئاسة الجمهورية أيّ صلة به، حيث قال المدير التنفيذي لحزب “الشعب يريد” نجد الخلفاوي، في تصريح لجريدة الصباح في عددها الصادر اليوم الثلاثاء 9 مارس 2021، إن دولة أجنبية مؤثرة دعمت حملة قيس سعيّد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفارطة.

وأكّد الخلفاوي، أنه “لولا هذا الدعم لما كان قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية”، مؤكّدا أن حزبه “يملك جميع الأدلة لهذه الاتهامات”.

وأضاف أن أحد أفراد حملة قيس سعيد اتصل بممثل تلك الدولة وتم تنظيم لقاء بينه وبين قيس سعيد في 19 أوت 2019 بتونس وكان هذا اللقاء موثق. لافتا إلى أن عديد الاتصالات جمعت ممثل هذه الدولة بقيس سعيد والعديد من الأشخاص من الدائرة الضيقة للرئيس، وفق قوله.

ولم يكشف الخلفاوي هوية هذه الدولة لكن الكواليس السياسية أشارت إلى روسيا، وهو ما لم يتمّ إثباته إلى حدود كتابة هذه الأسطر.

انقلابات في سياق ثوري

احتكم التونسيون لأوّل مرّة منذ 50 سنة إلى إرادة الصندوق يوم 23 أكتوبر 2011 الذي أسفر ولادة المجلس الوطني التأسيسي، وكُلف بكتابة الدستور، وانتخب البرلمان حكومة حمادي الجبالي باعتباره قياديا في حركة النهضة صاحبة الأغلبية البرلمانية، وقادتها حركة النهضة في ما عرف لاحقا بـ”حكومة الترويكا” مع حزبي التكتل من أجل العمل وحريات (رئاسة البرلمان في شخص مصطفى بن جعفر) والمؤتمر من أجل الجمهورية (رئاسة الجمهورية في شخص المنصف المرزوقي).

وبينما انكبّ التونسيون على تحقيق أهداف ثورتهم من حريّة وكرامة اقتصادية واجتماعية وإتمام كتابة الدستور، سرعان ما بدأت ارتدادات الثورة تظهر على الساحة السياسية، فرغم ما جناه الشعب التونسي من رفاه الحرية بكلّ تجلياتها العقائدية وحرية التعبير والفكر، فإنّ انكماش قوى الثورة المضادة لم يدم طويلا ولم ترق أجواء العتق من الدكتاتورية أعداء الحرية داخل البلاد وخارجها، وتتالت محاولات إعدام الثورة عبر انقلابات ناعمة ذات ارتباطات مشبوهة.

أوّل الاهتزازات كانت في فيفري 2013 عقب جنازة عضو الجبهة الشعبية السياسي شكري بلعيد يوم 8 فيفري  2013 الذي كان يوم إضراب عام دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث ظهرت تحركات غريبة في شكل احتجاجات كادت تتحول إلى صورة من السيناريو الليبي، وكادت تقود تونس إلى مواجهات أهلية حقيقية، وهاجم “مجهولون” بعض مراكز الأمن في عدد من الولايات فضلا عن حرق بعض المقرات الجهوية لحركة النهضة.

وأحرق “منحرفون” بعض السيارات واعتدوا على مشاركين في الجنازة وحاولوا سرقة سياراتهم وألقوا حجارة على أعوان الأمن، وقُتل في خضم هذه المواجهات عون الأمن لطفي الزار على يد من كانوا يحاولون نهب الأملاك العامة والخاصة، ودخل شرطي آخر في حالة غيبوبة بعد تعرضه للضرب من متظاهرين في ولاية قفصة.

جنازة السياسي شكري بلعيد

إثر هذه الأحداث، أعلن حمادي الجبالي استقالة حكومته وطالب بتعيين حكومة مستقلة، قابلها رفض أحزاب “الترويكا” ثمّ كوّن علي العريض (وزير الداخلية في حكومة الجبالي) حكومته ليعود الاستقرار النسبي إلى البلاد ويستأنف المجلس الوطني التأسيسي عمله من جديد.

إلى ذلك، فإنّ التونسيون يستذكرون ما حصل في صائفة سنة 2013 حيث عطل منظمو “اعتصام الرحيل” دواليب الدولة وكاد يعصف بها بحجّة إسقاط حكومة “الترويكا” عقب اغتيال النائب محمد البراهمي يوم 25 جويلية 2013.

وتمّ تنظيم هذا الاعتصام أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي مطالبا بحل الرئاسات الثلاثة وهي المجلس الوطني التأسيسي وحكومة علي العريض ورئاسة الجمهورية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وقد دعا إلى هذا الاعتصام حركة “تمرد” بمشاركة الجبهة الشعبية وأحزاب أخرى والاتحاد العام التونسي للشغل ومستقيلون من المجلس الوطني التأسيسي.

صورة من جنازة السياسي محمد البراهمي

واستغلت الثورة المضادة وداعموها تتالي العمليات الإرهابية والخلافات السياسية لإرباك الدولة وتغيير قواعد اللعبة السياسية فضلا عن التحفيز المعنوي الذي أمدهم به النظام العسكري في مصر المتقلد حديثا للسلطة عبر دبابات المشير عبد الفتاح السيسي بوم 03 جويلية 2013، إذ أنّ مكوني الاعتصام هم الفاشلون في اختبار صندوق الاقتراع (كونوا ما سمي حينها بجبهة الإنقاذ يقودها الباجي قايد السبسي) فخيروا الفوضى على الاعتراف بإرادة الناخبين.

ورغم ترويج حركة “تمرد” أنّها مستقلة عن الأحزاب فقد أعلنت الأحزاب السياسية اليسارية والوسطية دعمها للحركة. فأصدرت حركة نداء تونس سليلة النظام القديم، بيانا عبرت فيه عن “ضرورة التّوجه الفوري لتصحيح المسار الانتقالي وإعادة النّظر في مسار الانتقال الديمقراطي برمّته و ذلك عبر حلّ الحكومة و تشكيل حكومة إنقاذ وطني مكوّنة من كفاءات وطنيّة بعد المشاورات والإعداد لخارطة طريق واضحة للانتخابات وتكوين لجنة فنيّة لإصلاح مشروع الدّستور والإعلان الفوري عن حلّ ما يسمّى برابطات حماية الثورة وإحالة المورّطين فيها على القضاء”.

واعتبرت الجبهة الشعبية “أن حكومة الترويكا فشلت في تحقيق مطالب الشّعب وتآمرت عليه واتخذت سلسلة من القرارات والإجراءات التي عمّقت الأزمة العامّة في البلاد اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، وأمنيا”.

اعتصام الرحيل سنة 2013

وأمام تواصل الضغط وتحميل حركة النهضة مسؤولية الاغتيالات، دخلت البلاد في أزمة سياسية خانقة، لم تخرج منها إلا بعد الحوار الوطني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وعمادة المحامين والرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكانت أبرز نتائجه استقالة حكومة علي العريض وتقلد على إثر ذلك مهدي جمعة منصب رئاسة الحكومة.

وهو انقلاب ناعم على نتائج صندوق الاقتراع التي تمخضت عن انتخابات حرة وديمقراطية أشرفت عليها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وأفرزت أغلبية تقودها حركة النهضة تسلمت على إثرها حقها في مقاليد الحكم. فكان انقلابا في شكل حوار سياسي خرج بأخفّ الأضرار على دولة دُبّر لها أن تتحوّل إلى دولة عسكرية لولا رفض الجيش التونسي الانخراط في هذه اللعبة.

وأكّد الأمين البوعزيزي في حديثه لـ”ضاد بوست” أنّه “منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 نرى تمرد أو تنكر أو عدم اعتراف من دخلوا الانتخابات وخسروا فيها بنتائجها، وبالتالي رافضون أن يكون الحكم على قاعدة من تمّ انتخابهم، فبدع حكومات المستقلين وحكومات الكفاءات هو نوع من التنكر لنتائج الانتخابات”.

وتابع البوعزيزي أنّ “هذا يتم على مدار 10 سنوات، أي نجري انتخابات ثمّ نشكل حكومة كفاءات مستقلة، هذا ما يمكن أن نسميه انقلابا على نتائج الانتخابات لكن ليس انقلابا بالمعنى العسكري للكلمة”.

الحكومات المستقلة بدعة تعتبر انقلابا

الأمين البوعزيزي

وكان وزير الداخلية السابق فرحات الراجحي، كشف في تسجيل مسرب في ماي 2011، أن “قائد هيئة أركان الجيوش الثلاثة، الجنرال رشيد عمار سيقود انقلابا عسكريا في حال فوز حركة النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي”.

لكن الجنرال رشيد عمار استقال في 23 جويلية 2013، وكذّب كل التخمينات بانقلاب عسكريّ في تونس دفعت إلى ترويجه المؤلفة قلوبهم من أتباع الثورة المضادة خاصة بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر وقال حينها في حوار لقناة التونسية (الحوار التونسي حاليا) إنّه استقال لأنّه تجاوز السن القانونية.

إذا تجنبت تونس بفضل “التوافق” السيناريو الذي أعدّ لها لتكون ساحة تناحر أهليّ أو دولة عسكرية على غرار ما حدث في بقية دول الربيع العربي في كل من سورية وليبيا واليمن ومصر، فمرت سنة 2013 من سيناريو إسقاط مؤسسات الدولة القائمة إلى تغيير الحكومة والمرور إلى انتخابات سنة 2014 بعد إتمام صياغة الدستور.

وتجدر الإشارة إلى أنّ حكومة المهدي جمعة (مستقل) عرفت بدورها هزات عدّة عمقها تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتتالي العمليات الإرهابية، لكنها استطاعت بـ”شقّ الأنفس” المرور إلى انتخابات مجلس نواب الشعب وأول انتخابات مباشرة لرئيس الجمهورية الثانية.

واستمر المجلس الوطني التأسيسي في عمله بعد تعليقه أثناء “اعتصام الرحيل”، وأنتج دستور 2014 الذي صادق عليه النواب بأغلبية ساحقة يوم 27 جانفي 2014، وتمّ الاحتفال بصدوره يوم 7 فيفري 2014.

إلى ذلك، فقد تمّ تنظيم الانتخابات الرئاسية وفاز فيها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وتلتها هذه المرة احتجاجات في الجنوب التونسي (أغلبيته مناصرة للرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي) مما أثار مخاوف جدية من تقسيم التونسيين عبر النعرة الجهوية (سبق أن استغلها الحبيب بورقيبة في تصنيف المقاومين وأنصارهم عقب الاستقلال).

صورة المرزوقي يسلم الرئاسة للباجي قايد السبسي

ونجحت الثورة في هذا الاختبار، إذ توجّه الرئيس السابق إلى أنصاره بكلمة طالبهم فيها بالهدوء وتقبّل النتائج احتراماً للعبة الديمقراطية، وتمّ تسليم السلطة سلمياً بين الرئيسين في مشهد تاريخي تشهده بلاد عربية لازالت خاضعة لاختبارات الانتقال الديمقراطي ومحاولات الثورة المضادة لإجهاضها.

وفازت حركة “نداء تونس” بالأغلبية في مجلس نواب الشعب، فهبّ أنصار النظام القديم إلى الدعوات بإبادة الإسلاميين من المشهد السياسي، حتّى أنّ بعضهم طالب بإعادتهم إلى المعتقلات والمنافي منتشين بعودة رموز النظام السابق الذي مثلته حركة نداء تونس، إلاّ أنّ الخطان المتوازيان (النهضة ونداء تونس) اللذان استحال التقاؤهما قبل الانتخابات اتفقا على تكوين الحكومة سويا، وأجهضت أحلام النافخين في نار الفتنة وعودة أمجاد الدكتاتورية.

صدمة التقاء المتوازيين

رغم محاولات النفخ في روح الدكتاتورية من طرف أنصارها في الداخل والخارج، فإنّ التحالف الذي قام بين الصديقين اللدودين حركة النهضة وحركة نداء تونس، أصاب قوى الثورة المضادة بصدمة أجهضت أحلامهم بالانقلاب.

ذلك أنه بعد تصريح رئيس حركة النهضة أنّ “حركة النهضة وحركة النداء تونس خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيا”، دعمه الباجي قايد السبسي في تصريح لموقع “الصباح نيوز” بتاريخ 16 أكتوبر 2014، فقال عن إمكانیة قبول نداء تونس بوجود حركة النهضة كطرف في حكومة تشكلھا في حال فازت بالانتخابات، إنّه “لا عداء لنداء تونس مع أي حزب وإنه لن يحكم منفردا باعتبار أن مصلحة البلاد تقتضي التوافق العريض”، مذكّرا بالعقد مع الأحزاب المكونة للاتحاد من أجل تونس والذي يفید أنه “في صورة فوز النداء بأغلبیة مطلقة فسیحكم مع الاتحاد كما سیُشرك الأحزاب الحاملة لنفس المواقف والرؤى والمشاريع”.

وبشأن إمكانیة التحالف بین النهضة والنداء بعد الانتخابات إذا وضعت الانتخابات حزبه أمام وجوب التحالف مع النهضة، فردّ السبسي “الحق أجیب بما قاله المثل العربي فالنداء والنهضة عبارة عن خطين متوازيین لا يلتقیان إلا بإذن الله.. وإذا التقیا فلا حول ولا قوة إلا بالله”.

صورة من لقاء باريس

والتقى الخصمان يوم 15 أوت 2013 في باريس، وهو ما عرف لاحقا بـ”اتفاق باريس”، وفي كشفه لتفاصيل هذا الاتفاق نشر زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي يوم 15 أوت 2018 نصا مطولا قال إنّه بمناسبة الذكرى الخامسة لاتفاق باريس، حيث قال “إنه (اتفاق باريس) كان منطلقًا لمسار حمى البلاد من الفتنة والانقسام وهيأ للثورة التونسية سبل النجاح”.

وأضاف الغنوشي أنّ الأمور في صيف 2013 “كانت تسير نحو الفوضى.. وكان التحريض على أشدّه… وهذا اللقاء كانت استجابة لدعوة أطلقها السبسي من شاشات التلفزة في أوت 2013″، مضيفًا “لم تتأخر استجابتي وحتى من لامني وقتها على الذهاب إلى باريس للقائه، أجبته لو كان الذهاب إلى غواتيمالا مفيدًا لتونس في درء الفتنة المخيم شبحها على البلاد ما ترددت”.

واعتبر الغنوشي أن التوافق “لم يكن صفقة انتهازية أو خيارًا تكتيكيًا أو مناورة ظرفية”، وقال إن النهضة “خرجت من الحكم ولكنها لم تخرج من السياسة، لم تنقذ نفسها وحسب من محرقة كانت تعد بل أنقذت بانسحابها من السلطة الثورة من الارتداد”، حسب قوله.

في المقابل، رأى الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، في خطاب له في ولاية صفاقس يوم 2 نوفمبر 2019، أنّه “خلال اتفاق باريس في صيف 2013 اجتمع رجلان وأمضيا اتفاقية.. بنده الأول يقول تتعهد حركة النهضة بانتخاب رئيس الثورة المضادة، أما بنده الثاني.. يتعهد رئيس الثورة المضادة بأن يحمي النهضة من السيناريو المصري”.

وعقب الانتخابات تمّ إنشاء حكومة ترأسها نداء تونس وتحصلت فيها حركة النهضة على بعض الوزارات مقابل الدعم البرلماني من كتلة حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية.

وهو اتفاق رأى مراقبون أنّه “هجين”، لكنّه جنب البلاد مأزقا سياسيا كان يراد من خلاله إعادة البلاد إلى مربّع “الحاكم بأمره”، فتتالت الدعوات من بقايا النظام السابق إلى تغيير النظام إلى رئاسي وإعادة الإسلاميين وكلّ معارض لحكم النداء إلى السجون والمنافي والاستغناء عن دستور 2014 والعودة إلى العمل بدستور 1959.

عبير موسي تنتقد “اتفاق باريس”

وظهرت العديد من بوادر الانقلاب على الشرعية في فترة رئاسة السبسي، لعل أبرزها “محاولة الانقلاب” التي كشفها التقرير الفرنسيّ للصحفي “نيكولا بو”، عن تخابر وزير الداخلية المقال من حكومة يوسف الشاهد سنة 2016، مع جهات إماراتية لتغيير المشهد السياسي في تونس.

وأصيب رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بوعكة صحية ألزمته الفراش، وتزامنت مع طرح حكومة الشاهد مبادرة تشريعية لتغيير القانون الانتخابي واشتدت الخصومة حينذاك بين رأسي السلطة التنفيذية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تلك الفترة من تاريخ تونس ظلت غامضة باستثناء بعض الشائعات في كواليس الغرف السياسية المغلقة.

إلاّ أنّ المحامية والحقوقية والمستشارة السابقة للرئيس الراحل السبسي، سعيدة قراش، قالت يوم 24 جانفي 2021 في تصريح لإذاعة “موزاييك أف أم”، إنّه في الفترة الأخيرة من حياة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي كانت تتعامل معه عن طريق مراسلات والوسيط في ذلك كانوا أفراد عائلته.

وتابعت أنّ ديوان الراحل لم يكن على علم بالحالة الصحية للفقيد الباجي قائد السبسي في الفترة الأخيرة من حياته وفي يوم وفاته حلّت حالة من الرعب والفزع بقصر قرطاج.

وأعلنت سعيدة قراش أنّ الراحل السبسي لم يُمض على القانون الإنتخابي لأنّه كان غير قادر على الإمضاء، وكشفت أنّ قائمة العفو الرئاسي يوم 25 جويلية لم يتمّ نشرها لأنّ الراحل لم يُمض عليها لأنّه غير قادر على ذلك في حين أنّ الورقة الممضاة التي وصلت للديوان لم يكن بها إمضاء الباجي وإنّما إمضاء شخص آخر، مؤكّدة أنّ الراحل غير قادر على الإمضاء وبذلك لم يقبلها الديوان الرئاسي قائلة ”جاتنا تُصحاحة مش تُصحاحتو قلنالهم لا هذي ما تتعداش”.

وكان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، بتاريخ 30 جوان 2019، قال إنه “لا يستبعد وجود مخطط للتخلص من الرئيس الباجي قائد السبسي”، وذلك في حوار على قناة “حنبعل”.

وأوضح الغنوشي أنّ “لا معلومات دقيقة لديه بخصوص تعرض الرئيس الباجي قائد السبسي لحالة تسمم”، وذلك في رده على سؤال حول تصريحات سليم الرياحي، رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر، التي قال فيها إن الرئيس تعرض لتسمم وأن كلا من وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس البرلمان محمد الناصر، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، أحبطوا ما قال إنها “محاولة انقلابية”.

وحول المحاولة الانقلابية التي تحدث عنها رئيس حزب الوطني الحر سليم الرياحي، أفاد الغنوشي بأن “الانقلاب يفترض وجود جيش انقلابي”، مشددا على أن الجيش الوطني التونسي هو الذي أشرف على أول انتخابات ديمقراطية عام 2011 مقابل جيوش انقلبت على الديمقراطية، قائلا “جيشنا حمى الديمقراطية ولم ينقلب عليها ونتوجه إليه بالتحية”.

من جانبه، كشف وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي يوم 4 سبتمبر 2019، عن محاولة انقلابية كان يجري التحضير لها ضد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي أثناء وجوده في المستشفى للعلاج.

وقال في حوار لقناة “حنبعل”: “البلاد تعرضت يوم الخميس الأسود لمحاولة انقلاب، وأمرت بتطويق المستشفى العسكري وكنا ننوي غلق البرلمان لمنعه من الانعقاد، لمنع محاولات بعض النواب للانقلاب على الشرعية ومن أجل حماية للدستور والبلاد، وقد أعلمت رئيس الحكومة بذلك”، مشيرا إلى أن “محاولة الانقلاب، انطلقت من بث إشاعة وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ومحاولة معاينة الوضعية الصحية لرئيس البرلمان حينها، محمد الناصر، من أجل تفعيل البند الدستوري المتعلق بالشغور الدائم لمنصب رئاسة الجمهورية ،هذا المخطط فشل بعد عودة محمد الناصر من فترة النقاهة التي يقضيها إثر تعرضه لأزمة صحية، واستأنف عمله على رأس البرلمان”.

ونفى الزبيدي تعرض الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لأي تسمم أو تسميم مفتعل، مبينا أن لجنة خبراء كاملة أجرت التحاليل ونفت ذلك بصفة قاطعة.

وفي تصريحه يشير الزبيدي إلى وقائع يوم الخميس 27 جوان 2019، عند بثّ إشاعة وفاة الباجي قايد السبسي إثر دخوله المستشفى العسكري للعلاج، ذلك أنّه عمّت فوضى في البرلمان، وعمّ جدل سياسي وإعلامي، بعد شائعات تحدثت عن محاولة تنفيذ انقلاب على السلطة من طرف بعض الأطراف، من بينها حزب النهضة وتخطيطه لعزل رئيس البرلمان محمد الناصر (85 سنة) لدواع صحيّة، والدفع بنائبه الأول في البرلمان، القيادي في الحزب عبد الفتاح مورو، وهو ما نفاه مورو مؤكدا تواصله هاتفيا مع محمد الناصر الذي يغيب عن رئاسة البرلمان بسبب وعكة صحية.

ولم تمرّ تصريحات وزير الدفاع السابق مرور الكرام، بل خلّفت موجة من الاستنكار في الساحة السياسية ومخاوف من تكرار السيناريو المصري عبر “دبابات الزبيدي” للسيطرة على السلطة التشريعية ومنعها من العمل.

وفي 24 مارس 2021، أصدر رئيس البرلمان سابقا محمد الناصر كتابا روى مذكراته بعنوان “جمهوريتان وتونس واحدة”، وأثارت مذكرات التي وردت في 700 صفحة جدلا سياسيا كبيرا حيث تحدث عن الأحداث كما عاشها يوم الخميس 27 جوان 2019، قائلا إنّه تلقى اتصالا هاتفيا من وزير الدفاع طلب منه العودة إلى المجلس وعاد بالفعل رئيس البرلمان إلى مكتبه، وحسب ما ورد في مذكراته استغرب الناصر من تواجد عدد من النواب أمام مكتب المجلس حاملين للدستور وهو ما أثار شكوك واستنتاجات من إمكانية وقوع انقلاب في ذلك الوقت.

وأضاف الناصر أن وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي أكد له في ما بعد أن هدف نواب النهضة وتحيا تونس آنذاك كان الدعوة إلى عقد جلسة عامة استثنائية خارقة للعادة لإقرار الشغور في منصب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي نتيجة وضعه الصحي وتعويضه برئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد استنادا إلى الفصل 84. وأوضح محمد الناصر أنه في ظل غياب المحكمة الدستورية كانت لمجلس نواب الشعب باعتباره مؤسسة سيادية كل الصلاحية لإقرار الشغور الوقتي في منصب رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت.

كتاب “جمهوريتان وتونس واحدة” لمحمد الناصر

وهو ما كذبه نائب رئيس مجلس نواب الشعب السابق عبد الفتاح مورو، قائلا، في تصريح لإذاعة “شمس أف أم” يوم 27 مارس 2021، إن تواجد نواب أمام المكتب حاملين للدستور وهو الأمر الذي أثار استغراب رئيس المجلس :”كان الهدف منه محاولة إيجاد مخرج قانوني في صورة وفاة رئيس الجمهورية لان الوضعية كانت غير واضحة و لا علاقة لها بمحاولة الانقلاب”.

من جهته، قال رئيس الحكومة الأسبق إنّ “محمد الناصر مطالب بالتوضيح، لكن صاحب المقولة هو الزبيدي، الذي قال إنّه كان هناك محاولة انقلاب لكن أنا أملك تسجيلا خاصا ينفي فيه أقواله ويؤكد أنه لا يوجد أي محاولة انقلاب على الشرعية أو أي أمر من هذا القبيل. شهادة الزبيدي مشكوك فيها ومتضاربة. وما قام به الزبيدي هو لغايات انتخابية واضحة، وفق تصريح الشاهد لقناة “قرطاج+” مساء الجمعة 2 أفريل 2021.

وأضاف الشاهد “حين كنت مع رئيس الجمهورية في المستشفى عبد الكريم الزبيدي كان في قصر قرطاج يعقد اجتماعا مجهولا”.

وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي صحبة قيادات من الجيش التونسي

إلاّ أنّه يوم 25 جويلية 2019 توفي رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ووفق ما يقتضيه الدستور تسلم محمد الناصر رئيس البرلمان، رئاسة الجمهورية إلى أن سلمها إلى قيس سعيد عقب انتخابات 2019.

وبعد أيام من انتخاب رئيس الجمهورية قيس سعيد (29 أكتوبر 2019)، تمّت إقالة الزبيدي من منصبه وزيرا للدفاع (شارك في سباق الرئاسية وهو وزيرا للدفاع)، وراجت أخبار كثيرة عن إفشال محاولة انقلاب عسكري ممول من قوى إقليمية وبتخطيط من وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي.

ثورة جوع بطعم انقلابي

شهدت تونس بداية شهر جوان 2020 محاولات للحشد الكترونيا لمسيرة يوم 14 جوان 2020، وقد دعا المخططون لهذا الانقلاب الناعم إلى احتلال الشوارع و”كنس الإخوان” من الحكم، لكنّ هذه المسيرة التي حاولت “احتلال” ساحة باردو حنينا لـ”اعتصام الرحيل” سنة 2013 لم يتعد عدد المشاركين فيها العشرات الذين طالبوا بحل البرلمان وحل حركة النهضة وإسقاط الحكومة وإعادة الانتخابات.

وحسب ما نشره موقع “العدسة” (موقع إعلامي شرق أوسطي)، فإن صفحة “الفيس بوك” الخاصة بجبهة الإنقاذ التي تنشط باسم “حراك الإخشيدي”، تُدار من قبل “شخصين في الإمارات العربية المتحدة”، وقال موقع العدسة في مقال نُشر يوم الجمعة إن “هذا الأمر يثير الشكوك حول حجم تدخل الإمارات في الشؤون التونسية”.

إلاّ أنّ الحشد عبر هذه الصفحة لا يثبت أنّ لرئيس الجمهورية أيّة علاقة بها، إلا عبر اعتماد كنيته “الإخشيدي”، كما أنّ هذه الصفحة تنشر تصريحات وتحركات ما سمت نفسها “جبهة الإنقاذ الوطني لحراك 14 جوان”، وناطقها الرسمي فتحي الورفلي (شخصيّة مجهولة في الساحة السياسية) ادعى أنّ جبهته تقود “ثورة ضدّ الجوع”. ويتكرر ظهور الورفلي في عدد من القنوات الإماراتية والليبية، المقربة والممولة غالبًا من الإمارات،  للدعوة إلى إسقاط الشرعية القائمة في تونس.

احتجاجات ديسمبر 2020 (الأناضول)

وكانت صحيفة القدس العربي ذكرت نقلا عن وسائل إعلام تركية أن جهاز الاستخبارات التركي (MIT) أحبط  مخطط انقلابي أعدته الإمارات في تونس عبر وثائق عثر عليها في قاعدة الوطية الليبية، مشيرة إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان  سارع إلى الاتصال بنظيره التونسي ليُطلعه على الأمر، وهو ما أفشل هذا المخطط، لكنها حذّرت – في المقابل- من سيناريو بديل تعده أبو ظبي لنشر الفوضى في تونس.

وأشارت إلى أن حساب “مجتهد” المعروف على موقع تويتر، كشف عن “خطة سعودية – إماراتية”، يشارك فيها رموز نظام بن علي وتهدف لتكرار سيناريو مصر في تونس، وتبدأ بشيطنة حركة النهضة ومن ثم إدخال البلاد في فوضى أمنية وتنظيم احتجاجات مصطنعة تطالب بحل البرلمان وتعطيل الدستور، قبل أن يتم تعيين شخصية موالية لأبو ظبي على رأس السلطة.

ويتضمن المخطط تنظيم احتجاجات مصطنعة تتخللها أعمال شغب بهدف إحداث فوضى في البلاد والضغط على الحكومة ودفعها للاستقالة، قبل أن تتم المطالبة بحل البرلمان وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، فضلا عن محاولة الضغط على الجيش التونسي للتدخل، بهدف تكرار سيناريو مصر في تونس.

فيما أشار موقع “خبر 7” التركي إلى أن أبو ظبي تسعى إلى “التخلص” من الرئيس قيس سعيد وحركة النهضة بأي ثمن، لأنهما “يحولان دون تسليم تونس للإمارات”، مشيدة بالجهود التي يبذلها الرئيس سعيد كـ”زعيم وطني”ساهم في منع بلاده من الاصطفاف في المحور الإماراتي – السعودي، وجنبها السيناريو المصري.

خلافات تغذي دعاة الانقلاب

نعيش منذ بداية سنة 2021، على وقع آخر الانقلابات التي تختبر مسار الثورة، حيث عمت احتجاجات ليلية عددا من ولايات الجمهورية انطلقت يوم 14 جانفي 2021 تزامنا مع إعلان حجر صحي لمدّة 4 أيام، سعت إلى بث الفوضى في البلاد في إطار ما سمي بـ”ثورة الجياع”.

ونادت هذه التحركات – حسب الصفحات التي تحشد لدعمها – بحل الأحزاب الحاكمة والبرلمان والمطالبة بمحاسبتهم، وتعليق العمل بالدستور ومراجعة قوانين ما بعد الثورة وإعادة صياغته والمصادقة عليه باستفتاء شعبي وتحرير الإعلام من هيمنة اللوبيات والولاء السياسي.

وأسفرت المواجهات الليلية بين الشباب المتظاهر والشرطة عن اعتقال مئات الأشخاص بتهمة خرق الحجر الصحي والاعتداء على الممتلكات.  

وبينما كانت الحكومة تسعى إلى إخماد الاحتجاجات وتواجه مظاهرات يومية تطالب بإطلاق سراح الموقوفين، ظهر رئيس الجمهورية قيس سعيد في المنيهلة وسط عشرات تجمعوا أمام منزله يوم 19 جانفي 2021، قائلا “أؤكد مجددا على حق الشعب التونسي في الشغل والحرية وفي الكرامة الوطنية… في المقابل هناك من يسعى بكل الطرق إلى توظيفهم والمتاجرة بفقرهم وبؤسهم وهو لا يتحرك إلا في الظلام وهدفه ليس تحقيق مطالب الشعب بقدر سعيه لبث الفوضى”.

ومن جانبه، وصف رئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي التحركات الليلية -التي شهدتها بلاده منذ أيام- بأنها “غير بريئة”، وفي بيان صدر يوم 19 جانفي 2021 عن رئاسة الحكومة عقب اجتماع مع القيادات الأمنية العليا بوزارة الداخلية أشرف عليه المشيشي في قصر الحكومة، قال إن “أعمال النهب والسرقة والاعتداءات على الممتلكات الخاصة والعامة لا تمت بصلة للتحركات الاحتجاجية والتعبيرات السلمية التي يكفلها الدستور، والتي نتفهمها ونتعامل معها بالحوار الجاد والبحث”.

وشجب المشيشي “الدعوات التي تروج على صفحات التواصل الاجتماعي لبث الفوضى والاعتداء على المؤسسات الدستورية”، مؤكدا مجابهتها والتصدي لها عبر القانون.

ورأى مراقبون أنّ أعمال النهب والتخريب نتاج لفشل المنظومة السياسية ومنوال التنمية واستشراء الفساد، لكن شقا آخر رأى أنّها فوضى مدفوعة أخرجت المخربين واللصوص من جحورهم، فهل هي الخطة البديلة التي تحدثت عنها الوثيقة المسربة من قاعدة الوطية الليبية؟

وإنّ الخلافات التي ميزت علاقة رأسي السلطة التنفيذية قيس سعيد وهشام المشيشي، وصولا إلى شبه القطيعة التي نعيشها اليوم بين مؤسسات الدولة، دعمت المستثمرين في الأزمات فتحول التونسيون إلى فريقين، أحدهما يناصر بـ”قداسة” رئيس الجمهورية قيس سعيد بتشجيع متواصل من قوى الثورة المضادة، وشقّ ممثل خاصة في أنصار حركة النهضة يناصر هشام المشيشي.

وفي هذا السياق، رأى الباحث والناشط السياسي الأمين البوعزيزي أنّ “ما جرى عقب انتخابات 2019، هو تقريبا ما حدث سنتي 2012 و2013، لكن إن قارنا الأوضاع بما حدث عقب 2014 بحصول نداء تونس على رئاسة الحكومة والبرلمان لم نر هذه التحركات ضدّ إرادة الصندوق، أما عقب انتخابات 2019 عندما فازت حركة النهضة بالأغلبية في مجلس نواب الشعب ورئاسة الجمهورية جاء شخص من خارج الأحزاب ورئاسة الحكومة حاولت أن تكون خاضعة نسبيا لرئاسة البرلمان، وهنا يجري تنكر عجيب ونقض لنتائج الانتخابات”.

ما يجري في تونس اليوم كله صراع يعتمد القصف بفصول الدستور لا بالدبابات ولا بالقنابل الأمين البوعزيزي

وشدّد محدثنا على أنّ “الحديث عن حكومة الرئيس هو تنكر للانتخابات، وسلوك رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة هو تنكر لنتائج الانتخابات لأنه يريد معاملته كوزير أول، في حين أنه يصر أن يكون رئيس حكومة ويصر أن يخضع بالرقابة إلى البرلمان، إذا رئيس الجمهورية سلوكه السياسي متنكر للدستور ومتنكر للانتخابات، لكن كل ما سمي بـ”انقلابات” في تونس يجري كله داخل منطق الديمقراطية”. وأوضح البوعزيزي أنّ “ما يجري في تونس اليوم كله صراع يعتمد القصف بفصول الدستور لا بالدبابات ولا بالقنابل”، فهو صراع في ظلال الديمقراطية والدستور وخصام حول تأويل الدستور،  وهذا رد على بعض ممالك الأعراب الذي يصورون أن اليوم هناك جحيم في تونس”، قائلا “نحن نخاف عندما يتم الاستنجاد بالمؤسسة العسكرية أو المؤسسة الأمنية، وهما مؤسستان أثبتتا انضباطا كبيرا إلى منطق الدستور، رغم محاولة استدراج وأدلجة المؤسسة الأمنية لكنهم لم ينجحوا في جر المؤسسات الحاملة للسلاح إلى التمرد على الدستور”.

تسمية عبير موسي لتحركاتها بالثورة هو 'تعهير' للغة

الأمين البوعزيزي

من جانبها، أعلنت رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر عبير موسي يوم 19 ديسمبر 2020، ما قالت إنّها مبادرة “ثورة التنوير” التي تهدف إلى إرساء جمهورية مدنية اجتماعية ذات سيادة وطنية، لا مكان فيها للإسلام السياسي، حسب قولها.

وقد احتفت وسائل الإعلام الإماراتية بهذه المبادرة تحت عنوان “ثورة التنوير.. حراك جديد ضد “ظلامية” إخوان تونس”، وتزامت “ثورة موسي” مع الاضطرابات التي شهدتها نهاية سنة 2020 في عدد من ولايات الجمهورية ويقبع على إثرها عدد من الشباب إلى اليوم في مراكز الإيقاف.

وطرحت سليلة التجمع الدستوري الديمقراطي نفسها لقيادة موجة الغضب الشعبي، ذلك أنّها دعت في افتتاح ثورتها بالمنستير إلى “ضرورة توفر قيادة تحمل أهدافا وبرنامجا لتأطير موجة الغضب والاحتجاجات المنتشرة بالولايات حتى لا تتحول إلى عنف وأن تونس بحاجة اليوم إلى قيادة سياسية تحمل أطرا وهياكل قادرة على التواصل وعلى إدارة ورسم الطريق”.

وفي هذا السياق، شدّد الأمين البوعزيزي الناشط سياسي والباحث جامعي في الأنثروبولوجيا الثقافية، على أنّه “بعد فشل كلّ المناورات بقي الحل هو محاولة استنساخ ثورة 17 ديسمبر، فما سمي بـ”ثورة التنوير” و”ثورة الجياع” هو اغتصاب للمعاني فلا يمكن لسليلة فاشية التكلم عن التنوير”.

انقلابات تاريخية…

شهدت تونس في تاريخها انقلابا وحيدا نجح قائده في افتكاك كرسيّ السلطة وهو انقلاب 7 نوفمبر 1987، ولم يعتمد بدوره إلاّ تشكيلة من الحرس الوطني بدعم من إحدى فرق الحرس الرئاسيّ، أمّا تدخلّ الجيش فقد كانت ولازالت المهمة المستحيلة على الانقلابيين.

كذلك شهدت سنة 1962، ما روّج نظام الحبيب بورقيبة أنّه محاولة انقلاب عليه وصلت إلى التخطيط لقتله في فراشه.

انقلاب 7 نوفمبر 1987

إنّ انقلاب 7 نوفمبر 1987 رغم نجاحه لم يكن بدوره عسكريا، ذلك أنّه استند إلى الفصل 57 من الدستور الذي ينص على أن يتولى الوزير الأول رئاسة الجمهورية في حالة عجز أو وفاة رئيس الجمهورية، وقد اعتمد الوزير الأول زين العابدين بن علي على تقرير طبي أصدره عدد من الأطباء أقرّ  بعجز رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة (البالغ من العمر حوالي 87 عاما) عن القيام بالمهام المنوطة بعهدته.

وشارك في “التغطية” على هذا الانقلاب عدة سياسيين أبرزهم المدير السابق للحزب الاشتراكي الدستوري الهادي البكوش، ووزير الإعلام عبد الوهاب عبد الله، ووزير الدفاع صلاح الدين بالي، في حين اعتمد أساسا على الحرس الوطني بقيادة الحبيب عمار لتأمينها.

المصدر: جويل روبين (وكالة الأنباء الفرنسية)

ووُضع بورقيبة رهن الإقامة الإجبارية في ضيعته في مرناق كما وقع التحفظ في اليوم نفسه على عدة شخصيات موالية له من أبرزها الوزيران محمد الصياح ومنصور الصخيري، ومرافقه محمود بلحسين، ومحجوب بن علي أحد المديرين السابقين للحزب الحاكم.

وقُمع كلّ من سولت له نفسه إفشال الانقلاب حيث رحبت أغلب القوى السياسية بـ”صانع التغيير”، خصوصا أن بيان 7 نوفمبر تحدث عن جدارة الشعب “بحياة سياسية متطورة ومنظمة تعتمد بحق تعددية الأحزاب السياسية والتنظيمات الشعبية”، فضلا عن حالة الغليان الاجتماعيّ والسياسي في الساحة التونسية نتيجة الممارسات الدكتاتورية لنظام بورقيبة.

وفي حوار أدلى به إلى إذاعة “شمس أف أم” بتاريخ 7 فيفري 2017 كشف الجنرال الحبيب عمار (كان آمرًا للحرس الوطني زمن الانقلاب وهو الرجل الثاني في انقلاب 7 نوفمبر ورجل الميدان والتنفيذ في عملية تطويق قصر قرطاج بورقيبة)، كشف أن الفكرة اختمرت يوم 25 أكتوبر 1987 حينما أعلمت سعيدة ساسي، ابنة أخت بورقيبة، بن علي أن رئيس الدولة يعتزم إقالته من الوزارة الأولى.

وأضاف أن “بن علي قال وقتها إنه سيقدم استقالته حفظًا لماء وجهه، لكنني طلبت منه التريث لتبدأ حينها فكرة الإطاحة ببورقيبة وتعددت من وقتها اللقاءات الثنائية بيننا”.

وقال عمار إنه كان من المخطط تنفيذ الانقلاب يوم 8 نوفمبر لكن بن علي أعلمه أنه جاءته معلومات من الأمنيين المندسين وسط الإسلاميين أن الاتجاه الإسلامي يخطط لعملية انقلابية بدوره في نفس يوم التخطيط الانقلابي الأول، وأكد عمار أنه تقرر حينها تقديم عملية الانقلاب بيوم واحد.

وأفاد آمر الحرس الوطني أنه تم إعلام الهادي بكوش، الذي سيصبح الوزير الأول في أول حكومة لبن علي، بالمخطط الانقلابي يوم 5 نوفمبر 1987، موضحا أنه كان من المبرمج في البداية تعيين حامد القروي كوزير أول ولكن أكد أنه دفع نحو تعيين الهادي البكوش باعتبار علاقاته “الطيبة” مع الجزائريين وقتها.

وأوضح الحبيب عمار أن الخطة “ب” مع بن علي كانت تقضي بانتحارهما معًا في حال فشل عملية الانقلاب، مؤكدًا عدم علم أي دولة أجنبية بهذه العملية (روج في الكواليس أنّ العملية دعمتها المخابرات الايطالية وهو ما نفته الشهادات المتتالية لمشاركين في الانقلاب).

شهادة الحبيب عمار في إذاعة “شمس أف أم”

من جانبه، قال كاتب “بيان 7 نوفمبر” والوزير الأول في أول حكومة شكلها بن علي، الهادي البكوش في برنامج “شاهد على العصر” في قناة الجزيرة بتاريخ 17 أوت 2014، إن بن علي استنجد به من أجل الإطاحة ببورقيبة في أكتوبر 1987، وإنهما كانا يعقدان إلى جانب الحبيب عمار اجتماعات لإبعاد رئيس الجمهورية.

وأفاد البكوش أنه تقدم بنفسه بمقترح بتشكيل حكومة يكون هو رئيسها ووضع مجلس رئاسي من حوالي سبعة جنرالات لإدارة البلاد لمدة ستة أشهر، ولكنه أكد أن المقترح تمَّ رفضه من بن علي وعمار.

ووفق الخطة النهائية المتفق عليها بتاريخ 28 أكتوبر 1987، تم الاتفاق أن يجمع بن علي بعد صلاة الجمعة يوم 6 نوفمبر كل محافظي الأمن والحرس، بينما يعد بن عمار الحرس الوطني للتوجه في منتصف ليل 7 نوفمبر 1987 إلى قصر قرطاج لتطويقه.

وأفاد أنه ليلة الانقلاب كان يوجد مع بن علي في مقر وزارة الداخلية، مبينًا أنه كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة للحكومة الجديدة، فيما كان بن علي في اجتماعات مع ضباط الأمن والجيش، وأعدّ مع وزيرة الصحة سعاد اليعقوبي التقرير الطبي لإثبات العجز الصحي لبورقيبة.

وأكد البكوش ما ذكره عمّار، مبينًا أنه علم لاحقًا أن الإسلاميين كانوا يعدون للإطاحة ببورقيبة بتاريخ 8 نوفمبر 1987 وقد تلقى بن علي قبل انقلابه معلومات عن “تحركات مشبوهة” ومنها أن أحد حراسه الشخصيين هو إسلامي.

وأضاف أن الانقلاب تم على الساعة الثانية بعد منتصف الليل من يوم 7 نوفمبر، مشيرًا إلى أن مسؤول في الأمن الرئاسي تردّد في الاستجابة لمطلب الحبيب عمار بسحب عناصر الأمن الرئاسي، وذلك قبل تدخل بن علي وإعطاءه أوامر بتسهيل مهمة آمر الحرس الوطني.

شهادة الهادي البكوش في برنامج “شاهد على العصر”

عمر الشاذلي الطبيب الخاص للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، كان الورقة التي شرعت “الانقلاب الدستوريّ” ضدّ نظام بورقيبة، إذ قال في كتابه “بورقيبة كما عرفته” (أصدره بعد الثورة باللغة الفرنسية)، إن زين العابدين بن علي تآمر على بورقيبة الذي لم يكن عاجزا عن أداء مهامه عشية الإطاحة به في 7 نوفمبر 1987 بداعي المرض والشيخوخة.

وقال الشاذلي إن “بن علي حاول إضفاء طابع قانوني على ما فعله، بتقديم شهادة طبية وقعها سبعة أطباء تم تسخيرهم ليلا من قبل النائب العام الهاشمي الزمال”، موضحا أن “أربعة من هؤلاء الأطباء (عز الدين قديش ومحمد قديش والصادق الوحشي وعبد العزيز العنابي) لم يعاينوا بورقيبة منذ عدة سنوات”.

وأضاف أن الأطباء الثلاثة الآخرين الموقعين على الشهادة الطبية “هم أخصائي أمراض القلب محمد بن إسماعيل وأمراض المعدة الهاشمي القروي والرئة عمارة الزعيمي الذين كانوا يزورون بورقيبة مرة في الأسبوع أو بطلب منه وضعوا تواقيعهم إلى جانب الأربعة الآخرين على الشهادة”، مشيرا إلى أن هذه الشهادة لم تحمل توقيعه ولا توقيع أحمد الكعبي الذي كان تولى مهمة الطبيب الخاص لبورقيبة بين 1970 و1978.

وفي وثيقة تاريخية مكتوبة خصّ بها مؤسسة التميمي وكشف عن فحواها في ملتقى انتظم يوم 6 سبتمبر 2014 حضره بالخصوص الطبيبان عمر الشاذلي وعبد العزيز العنابي ورفيق الشلي كشف الطبيب عز الدين قديش، طبقا لما ورد بموقع “ليدرز”، الساعات التي سبقت إمضاء الأطباء السبعة على تقرير ما أسماه “الانقلاب الطبي” الذي فتح طريق قصر قرطاج أمام بن علي.

وقال عز الدين قدّيش إنه استُدعي يوم  السبت 7 نوفمبر 1987 حوالي الساعة الثانية فجرا من طرف وزير الداخلية آنذاك عبد الله القلال بأمر من بن علي. وأضاف أنه عندما وصل إلى وزارة الداخلية اكتشف وجود الطبيب محمّد قديش وأنه فهم مباشرة أن الأمر على علاقة بحالة بورقيبة الصحية، وأنه وجد في مقر الوزارة أيضا كلا من الأطباء محمد بن إسماعيل والهاشمي القروي وعمارة الزعيمي ومحمد قديش والصادق الوحشي وعبد العزيز العنابي ، إضافة إلى شخصه هو ووزيرة الصحة آنذاك سعاد اليعقوبي.

وتابع قديش أن عبد الله القلال أعلمهم بالغاية التي استُقدموا من أجلها وأنهم طلبوا رؤية الرئيس بورقيبة.

وقال إن الجواب جاء بالرفض وأن القلال أفهمهم أن القصر الرئاسي محاصر وانه لا يمكن دخوله.

وأشار إلى أن الأطباء دخلوا في نقاش في ما بينهم وانه لم يجد بدّا من إملاء التقرير الطبي المطلوب، ملاحظا انه طلب حضور وكيل الجمهورية قبل أن يتقدّم منه الهادي البكوش ليعلمه بأنه إذا لم تتم الأمور كما هو مخطط له فان تونس ستشهد حمّام دم ويتم تحميله ( قديش) وحده مسؤولية ذلك.

من جانبه، روى مدير الحرس الرئاسي السابق رفيق الشلي تفاصيل ليلة سقوط بورقيبة، قائلا إن عملية الإطاحة ببورقيبة انطلقت بعزله بداية مع طلاقه من زوجته وسيلة بن عمار وثم إبعاد كاتبه الشخصي علالة العويتي وكذلك إبعاد مدير ديوانه منصور السخيري بتعيينه وزيرا، وحتى أن بن علي أبعد شخصًا يُدعى محمود بن حسين كان يعلم بورقيبة بتفاصيل الأمور ويقرأ له الجرائد.

وأضاف أن الوزير الأول (بن علي) أعلمه أن رئيس الدولة كبر في السن وبات عاجزًا عن أداء مهامه، وقال الشلي إنه كان مقتنعًا بدوره بضرورة إبعاد بورقيبة لكبر سنه ومرضه، مضيفًا أنه كان أمام خيارين إما القبول بخطة بن علي بعد تلقيه تطمينات على حياة رئيس الدولة، أو رفض الخطة وهو ما يعني إيقافه وهو ما لا يُجدي على اعتبار أن بن علي قال له إنه لن يتراجع عن خطته ولو استعمل القوة.

وأضاف أنه طلب من آمر الحرس الوطني الحبيب عمار أن يتوجها معا إلى القصر الرئاسي قبل وصول وحدة “الكومندوس” من الحرس بـ10 أو 15 دقيقة، لأن عناصر الأمن الرئاسي قد ترفض تطبيق أوامره إن شاهدت دبابات الحرس.

رفيق الشلي: هذه تفاصيل ليلة سقوط بورقيبة

محاولة انقلاب ضد الطغيان

وجد انقلاب زين العابدين بن علي ترحابا من معارضي القمع الذي مارسه الحبيب بورقيبة ضدّ معارضيه وكان وزير الداخلية زين العابدين بن علي العصا الغليظة التي قمعت وشردت كلّ السياسيين من مختلف العائلات خاصّة منهم اليوسفيين ولعلّ أحداث الخبز سنة 1984 خير دليل، لكن قبل ذلك، وتحديدا سنة 1962 كان تاريخ ما روج نظام بورقيبة أنّه محاولة انقلاب ضده وهو ما بات يعرف لاحقا بانقلاب مجموعة “الأزهر الشرايطي”.

ذلك أنّه استمر تهميش المقاومين والتضييق عليهم وإهانتهم، فاندلعت مظاهرات بقيادة الشرايطي للمطالبة بتعويض المقاومين بمنحهم قطعا أرضية أو رخصا تجارية، وفي بداية الستينيات واصلت الأوضاع الاجتماعية والمعيشية التدهور، وبدأ الحديث يتواتر عن بناء قصور رئاسية وشبهات فساد.

واشترك في هذه المحاولة مجموعة من العسكريين والمدنيين من مختلف التوجهات السياسية من مقاومين سابقين وعسكريّين ومدنيين معارضين للنظام. وألقي القبض على المجموعة التي تضم قرابة ‌25 شخصا في 19 ديسمبر 1962 وبدأت محاكماتهم في 12 جانفي 1963 وتمّ التّصريح بالحكم يوم 17 جانفي 1963 بعد أكثر من عشرين ساعة من المداولات.

صورة الصفحة الأولى لجريدة الصباح يوم 19 ديسمبر 1962

ولم يسمح النظام للمتّهمين باختيار محامين بل عيّن لهم 5 محامين معروفين بقربهم من النّظام، وبعد 5 أيّام من المحاكمات أصدرت المحكمة العسكرية بتونس في حقهم أحكاما تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن.

فقد حكمت المحكمة بإعدام 13 شخصا منهم وهم عمر البنبلي وكبير المحرزي وصالح الحشاني وعبد الصادق بن سعيد والمنصف الماطري وحمادي قيزة والحبيب بركية وكلهم من العسكريين والحبيب حنيني والهادي القفصي والأزهر الشرايطي وعبد العزيز العكرمي وأحمد الرحموني والمسطاري بن سعيد (في حالة فرار) وكلهم من المدنيين، وبالأشغال الشاقة المؤبدة في حق محمد الصالح البراطلي والساسي بويحيى، وعشرين عاما أشغالا شاقة في حق العربي العكرمي وعلي كشك وعبد القادر بن يشرط وأحمد التيجاني وتميم بن كامل التونسي وعشر سنوات أشغالا شاقة علي القفصي وعز الدين الشريف، وخمسة أعوام أشغالا شاقة في حق الكفلي الشواشي، وعامين سجنا في حق محمد العربي المثناني وحسن مرزوق وعام سجنا في حق العربي الصامت.

وبعد 7 أيّام من التّصريح بالحكم تمّ تنفيذ أحكام الإعدام رميا بالرصاص في 10 من المحكوم عليهم بتاريخ 24 جانفي 1963، مع استثناء المنصف الماطري ومحمد قيزة اللذين أبدل الحكم في شأنهما إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

إذا أثبت التحري في مسار الثورة أنّها شهدت محاولات انقلاب ناعمة اختبرت مسار الثورة وصمودها أمام دعاة العودة إلى ما قبل العتق من الدكتاتورية، لكنّ الواقع والتاريخ أثبتا أنّ تونس ليست أرضا لانقلاب عسكريّ يفتك بها سياسيوها الكرسيّ بقوّة السلاح والحذاء العسكريّ وهي تلك المهمة المستحيلة، بل أنّ حتى انقلابها الناجح سنة 87 نفذته مجموعة أمنية عززت فرصها دكتاتورية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إزاء معارضيه، أمّا حقبة بعد الثورة فلم تشهد إلاّ انقلابات ناعمة على نتائج الصندوق الانتخابي اختبرت ولازالت تختبر صبر الثائرين.

منى الكوكي

صحفية حاصلة على الأستاذية من معهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة، سنة 2009 اختصاص صحافة مكتوبة. عملت مدير تحرير وكالة الأنباء التونسية الخاصة "بناء نيوز" وصحفية بجريدة "الضمير" (توقفت عن الصدور) في تونس.
زر الذهاب إلى الأعلى