“معنويات الجيش” … تهمة جاهزة تصادر آراء المدنيين
لاتزال مسألة مثول المدنيين أمام المحاكم العسكرية محل جدل قانوني وحقوقي وسياسي دائم في تونس، وقد عاد هذا الجدل إلى الواجهة بعد محاكمة مدونين ونواب وإعلاميين أمام القضاء العسكري بسبب مواقفهم وآرائهم، إثر الإجراءات الاستثنائية المعلنة في 25 جويلية 2021، في حين يحذر حقوقيون من أن تتحول معنويات الجيش إلى تهمة جاهزة تصادر آراء المدنيين.
ارتفعت وتيرة محاكمة المدنيين عسكريا بعد ثورة 14 جانفي 2011، لكنها برزت بشكل لافت في عهد الرئيس قيس سعيّد مستهدفا معارضي “الحالة الاستثنائية”، مما أثار مخاوف حقيقية من العودة إلى مربع التضييق على حرية التعبير والنشر والصحافة، واستعمال القضاء العسكري كوسيلة لإسكات الأصوات المعارضة، وسط ارتفاع الأصوات الرافضة لمحاكمة المواطنين المدنيين عسكريا.
محاكمات مرفوضة
تعدّ محاكمة النائب ورئيس حركة “أمل وعمل” ياسين العياري أشهر المحاكمات العسكرية بعد الثورة، ذلك أنّه نهاية شهر أكتوبر الماضي، تمسّك العياري، بالصمت أمام قاضي محكمة الاستئناف العسكرية، رفضا لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في حركة احتجاجية بعد خضوعه لسلسلة من المحاكمات العسكرية بدأت منذ سنة 2014 ولازالت متواصلة إلى اليوم.
ولئن قضت المحكمة العسكرية بعدم سماع الدعوى في حق ياسين العياري، الذي تمت محاكمته بتهمة “تحطيم معنويات الجيش بقصد الإضرار بالدفاع والمس من كرامة الجيش الوطني ومعنوياته”، فإنه سيخضع لمحاكمة عسكرية جديدة يوم 14 فيفري 2022 وذلك بسبب مجموعة من تدوينات نشرها أيام 25 و26 و27 جويلية الماضي عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”.
وفي حديثه عن هذه المحاكمة، كشف ياسين العياري لـ ‘ضاد بوست’، أنه يواجه تهما تتمثل في “إيتاء فعل موحش ضد رئيس الجمهورية وتحطيم معنويات الجيش الوطني”، وذلك بسبب تدوينات نشرها عبر حسابه الرسمي على “فيسبوك” عبر فيها عن رفضه للتدابير الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية، قيس سعيد، يوم 25 جويلية 2021.
أواجه تهمة إيتاء فعل موحش ضد رئيس الجمهورية وتحطيم معنويات الجيش الوطني بسبب تدويناتي”العياري
وأضاف ياسين العياري أن “محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري أمر غير مقبول وغير معقول بكل المقاييس الدولية والمحلية”، مشيرا إلى أن”تهمة المس من معنويات الجيش’هي التهمة الجاهزة والوحيدة التي يمكن بموجبها محاكمة المدنيين عسكريا”.
واعتبر العياري أن “هذه التهمة ظهرت قبل الجمهورية التونسية وهي أمر علي أصدره الباي في تلك الفترة لمنع المواطنين من السخرية من عسكر زواوة”، حسب قوله.
وتابع قائلا “اليوم يحاكم المدنيون بهذه التهمة والهدف الوحيد هو مساعدة السلطة السياسية على محاكمة معارضيها”، مشيرا إلى أن”مثل هذه المحاكمات تضرّ كثيرا بسمعة الجيش الذي يحظى بقداسة لدى التونسيين وتورطه في معارك سياسية”.
يواصل العياري حديثه قائلا “في أول محاكمة عسكرية لي سنة 2014 حضر رئيس أركان جيش البر وقال إنه عندما قرأ تدوينتي انهارت معنوياته”، متسائلا”كيف يمكن لضابط مدرب على القنابل ومجابهة العدو والإرهاب أن تمسّ معنوياته مجرد تدوينة فيسبوكية بسيطة”.
محاكمات بالجملة
عرفت تونس محاكمات بالجملة حيث تمت محاكمة وإحالة عدد من النواب على القضاء العسكري بسبب مواقفهم الرافضة لإجراءات 25 جويلية التي أعلنها قيس سعيّد.
وحسب بيان صادر عن منظمة العفو الدولية، الأربعاء 10 نوفمبر 2021، فاق عدد المدنيين المحالين على محاكم عسكرية منذ 3 أشهر عدد المحالين عليها في 10 سنوات.
وقالت المنظمة، إن المحاكم العسكرية في تونس تستهدف المدنيين بشكل متزايد، وفي بعض الحالات، بسبب انتقادهم العلني للرئيس قيس سعيد منذ أن أعلن استحواذه على سلطات جديدة واسعة النطاق في 25 جويلية الماضي.
وأشار البيان إلى أنّه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها، حقق القضاء العسكري مع ما لا يقل عن 10 مدنيين، أو حاكمهم، بشأن مجموعة من الجرائم.
عدد المدنيين المحالين على محاكم عسكرية منذ 3 أشهر فاق عدد المحالين عليها في 10 سنوات”العفو الدولية
وقالت المنظمة: “لا ينبغي أبدًا محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية ومع ذلك، في تونس، يبدو أن عدد المدنيين الذين يمثلون أمام نظام القضاء العسكري يتزايد بمعدل مقلق للغاية، ففي الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة”.
وأشار البيان إلى أنّه بين عامي 2011 و2018، وثقّت منظمات حقوق الإنسان ما لا يقل عن ست حالات لمدنيين، مثلوا أمام القضاء العسكري؛ وقد تم تجاوز هذا العدد في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها.
وشدّدت العفو الدولية على أنّ المحاكم العسكرية تفتقر إلى الاستقلالية، حيث يمنح القانون التونسي الرئيس السيطرة النهائية على تعيين القضاة وممثلي النيابة العمومية في نظام المحاكم العسكرية، بناءً على ترشيحات وزيري الدفاع والعدل.
ونبّه البيان إلى أنّه “بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، لا ينبغي أبدًا أن يمثل المدنيون أمام محاكم عسكرية، بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم”. كما تنص المبادئ التوجيهية، الصادرة عن اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، المكلفة بتفسير الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والذي تعد تونس دولة طرفاً فيه، على أنه لا ينبغي للمحاكم العسكرية “في أي ظرف من الظروف أن تكون لها ولاية قضائية على المدنيين”.
وشدّد البيان على أنّه بموجب المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإن تونس ملزمة بحماية حرية التعبير من خلال الامتناع عن معاقبة أي شخص بسبب الانتقاد، أو عدم الاحترام المفترض تجاه الشخصيات العامة والقادة والمؤسسات. وتشير التوجيهات بشأن تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى أنه حتى إهانة شخصية عامة يجب اعتبارها خطابا مكفولاً بموجب العهد”.
وتم يوم 5 نوفمبر 2021، إحالة النائب بشر الشابي، على القضاء العسكري بتهمة “المس من معنويات الجيش الوطني”، بينما تم في شهر سبتمبر الماضي إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق النائب والمحامي سيف الدين مخلوف، من طرف قاضي التحقيق الثالث بالمحكمة العسكرية.
وقبلها أصدر قاضي التحقيق الأول بالمحكمة العسكرية الدائمة بتونس، بطاقة إيداع بالسجن في حق النائب عن “ائتلاف الكرامة” نضال سعودي، فيما يعرف بـ “قضية المطار”، رغم أن هذه القضية تعهد بها سابقا القضاء المدني بمحكمة تونس العاصمة، كما تم في نفس القضية إيقاف المحامي مهدي زقروبة ومحاكمته عسكريا قبل أن يتم إطلاق سراحه منتصف شهر سبتمبر 2021 والتحقيق مع النائبين ماهر زيد ومحمد العفاس في أكثر من مناسبة أمام قاضي التحقيق العسكري.
وقضت محكمة التعقيب بتونس، مساء اليوم الثلاثاء 7 ديسمبر 2021، برفض الطعن المقدّم من النائبين الموقوفين المحامي الأستاذ سيف الدين مخلوف ونضال السعودي ضدّ اختصاص القضاء العسكري في محاكمة المدنيّين في غير الجرائم الخاصّة التي تكتسي صبغة عسكريّة.
وأيّد قرار محكمة التعقيب قرار دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس والتي رفضت بدورها الطعن المقدّم سابقا من المتهمين في مدى اختصاص القضاء العسكري بقضيّتهم وبتعهّد المحكمة العسكرية بتونس وقاضي التحقيق العسكري فيها بالتتبّع والتحقيق في محاكمة مجموعة من نواب ائتلاف الكرامة بينهم سيف الدين مخلوف ونضال السعودي وعبد اللطيف العلوي وماهر زيد مع المحامي مهدي زقروبة على خلفيّة تدخّلهم بمطار تونس قرطاج الدولي إثر منع امرأة من السفر دون إذن قضائي ولا موجب قانوني، وذلك إثر شكايات تقدّمت بها ضدّهم بعض النقابات الأمنية. ويسمح الحكم بمواصلة محاكمتهم أمام نفس المحكمة العسكرية.
وبداية شهر أكتوبر الماضي، أصدر حاكم التحقيق الثاني بالمحكمة العسكرية الدائمة، بطاقة إيداع بالسجن في حق الإعلامي في قناة الزيتونة عامر عياد، بعد إيقافه رفقة النائب عبد اللطيف العلوي والذي تمّ تأجيل استنطاقه وإبقاؤه في حالة سراح، وذلك على خلفية ظهورهما معا في برنامج ‘حصاد 24’ وانتقدا من خلاله إجراءات 25 جويلية.
وبعد أسابيع من الإيقاف، قررت المحكمة العسكرية بتونس إطلاق سراح عامر عياد بصفة وقتية مع تأجيل النظر في القضية إلى 20 جانفي 2022 أي أنه سيحاكم مجددا أمام القضاء العسكري، كما تم منعه من السفر يوم الاثنين 6 ديسمبر الجاري.
وواجه عياد والعلوي تهما بـ“التآمر على أمن الدولة والدعوة إلى العصيان وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، ونسبة أمور غير قانونية إلى موظف عمومي دون الإدلاء بما يثبت صحة ذلك، والمس من كرامة الجيش الوطني وسمعته، والقيام بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء، وانتقاد أعمال القيادة العامة والمسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس من كرامتهم“، حسب ما أكده المحامي سمير ديلو في تصريح إعلامي.
وفي ما يتعلّق بملف قضيتهما، قالت العفو الدولية في بيانها، إنّها دققت في مقطع فيديو للبرنامج التي بثته قناة الزيتونة، موضوع إثارة الدعوى أمام المحكمة العسكرية. ووجدت المنظمة أن “العلوي وعياد لم يدليا بأي تصريحات تشكل لغة تمييزية مجحفة، أو تحريضاً على العنف، أو تتجاوز بغير ذلك النقد السياسي السلمي كما يكفله القانون الدولي”.
إلى جانب ذلك، تم يوم 22 أكتوبر 2021، إيقاف المدون شرف الدين الضيفلي، أصيل مدينة الكاف، على خلفية نشره تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي. وبعد سماع المدون أحالت النيابة بمحكمة الكاف الابتدائية ملفه إلى النيابة العسكرية إلا أنها أعادت إحالته على نيابة المحكمة الابتدائية.
وقبل اجراءات 25 جويلية، امتثلت المدونة أمينة منصور، نهاية شهر جوان أمام المحكمة العسكرية، على خلفية تدوينة على حسابها في “فيسبوك” انتقدت فيها رئيس الجمهورية قيس سعيد، كما أصدر القضاء العسكري يوم 17 جوان الماضي حكماً بالسجن 3 أشهر في حق المدوّن سليم الجبالي، بناء على شكوى من رئاسة الجمهورية أيضاً، إضافة إلى إصدارهبطاقة جلب في حق النائب راشد الخياري، إثر نشره تسجيلات تنتقد الرئيس سعيد على صفحته في “فيسبوك” (ولا يزال في حالة فرار).
وتعد إحالة مدونين إلى القضاء العسكري -على خلفية آراء وكتابات ضد رئيس الجمهورية قيس سعيد- سابقة في تونس، حيث لم يحرك الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي أية دعوى قضائية ضد أي مدون أو إعلامي، بينما قضت محكمة الاستئناف بتونس (محكمة مدنية) سنة 2019 بعدم سماع الدعوى لفائدة الناشط السياسي والمدون عماد دغيج، إثر قضية تقدم بها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ضده بتهمة “ارتكاب أمر موحش”.
وكان أيوب المسعودي، المستشار الإعلامي السابق لرئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي، أول مدني يحاكم أمام القضاء العسكري في تونس بعد الثورة، حيث قضت المحكمة العسكرية الابتدائية الدائمة بتونس، يوم 22 سبتمبر 2012، بسجنه مدة أربعة أشهربعد أن تقدم حينها قائد الجيوش الثلاثة التونسي الفريق رشيد عمار ضده بشكوى للنيابة العامة العسكرية تظلم فيها من تصريحاته على خلفية تسليم الحكومة التونسية للوزير الأول الليبي الأسبق بغدادي المحمودي للسلطات الليبية.
وتم سنة 2013، إيقاف المدوّن حكيم الغانمي بمقتضى الفصل 91 من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة، كما وقع إحالة الصحفي جمال العرفاوي في شهر سبتمبر 2016 على قاضي التّحقيق العسكري بتهمة الإساءة إلى المؤسّسة العسكريّة ومكوّناتها.
رفض محلي واسع
يرفض الحقوقيون والمحامون والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية في تونس محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، كما يرفضون بشدة تتبع المدونين وسجنهم بسبب تدوينات عبروا فيها عن آرائهم أو انتقدوا فيها رئيس الجمهورية أو أي مسؤول في الدولة، ورغم ذلك تشهد محاكمة المدنيين عسكريا ارتفاعا لافتا.
وفي حديث لـ ‘ضاد بوست’، جدد نقيب الصحفيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي، رفضه القطعي لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، خصوصا أولئك الذين تمت محاكمتهم بسبب تدوينات اعتبرت ناقدة أو مسيئة لرئيس الجمهورية.
من حق الرئيس مقاضاة الأشخاص أمام القضاء العدلي
وأضاف نقيب الصحفيين التونسيين قائلا “أولا رئيس الجمهورية استغل صفته كقائد أعلى للقوات المسلحة لتتبع كل منتقديه ومعارضيه وهذا أمر خطير لأن الرئيس ليس دوره إسكات الأصوات وإنما حماية الحقوق والحريات”.
يواصل حديثه مفسرا “قطعا لا يمكننا منع رئيس الدولة منحقه في التقاضي لكن ليس أمام القضاء العسكري وإنما أمام القضاء المدني، وللتذكير فإن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي خسر قضية رفعها ضد أحد المواطنين في سابقة لم يعرف لها مثيل في تونس… إذا من حق الرئيس مقاضاة الأشخاص لكن أمام القضاء العدلي”.
وأكد الجلاصي على “ضرورة النأي بالقضاء العسكري عن التجاذبات السياسية كي لا يكون عصا في يد السياسيين لقمع الأصوات”.
يجب النأي بالقضاء العسكري عن التجاذبات السياسية
في ذات السياق، قال بسام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، إن الرابطة ترفض محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، داعيا إلى التعجيل في تنقيح قانون”المرافعات والعقوبات العسكرية”.
وأكد الطريفي في تصريح مقتضب لـ ‘ضاد بوست’، أن موقف الرابطة ثابت منذ سنة 2011 إلى اليوم وهي تدعم كل المدنيين الذين تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري، مشيرا إلى أنه لا يمكن أن تتوفر فيه ضمانات المحاكمة العادلة التي تتوفر في القضاء المدني.
وتابع نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسانأن “الرابطة تتمسك بضرورة إصلاح المنظومة القضائية العسكرية والمدنية”، حسب قوله.
من جهتها، أكّدت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب معارضتها لمحاكمة المدنيين، أمام القضاء العسكري، بمن فيهم المدونين، لتعارض هذه المحاكمات مع الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس.
وأشارت المنظمة في تقريرها المتعلّق بشهر أكتوبر الماضي، إلى أنّ بعض الإحالات أمام القضاء العسكري كانت على خلفية تدوينات موجهة ضد رئيس الدولة القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وتابعتأن “التدوينات موضوع الإحالة هي مواقف سياسية وشخصية لأصحابها تجاه رئيس الدولة بوصفه شخصية سياسية ومدنية وأنها وإن كانت محل تجريم فتكون من اختصاص القاضي العدلي وليس العسكري”.
كما أكّدت المنظمة “معارضتها لعقوبة السجن في قضايا النشر والصحافة باستثناء جنح التحريض أو التهديد التي يمكن الحكم فيها بعقوبات سالبة للحرية في حالة ما إذا كان التحريض أو التهديد جديا طبق معايير موضوعية يقدرها القضاء”.
ترسانة قوانين قديمة
يرى المختصون في القانون أن الترسانة القانونية القديمة وغير المحيّنة ساهمت بشكل كبير في تسهيل عمليات محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، حيث أن الفصل 91 من مجلة المرافعات العسكرية مثلا لم يحين منذ أن تم إقراره سنة 1957. فرغم إدخال تنقيحات على المجلة إلا النصوص المتعلقة بالمدنيين لم يقع تغييرها لمنع محاكمتهم عسكريا.
وينص الفصل 91 من قانون ”المرافعات والعقوبات العسكرية”، على أنه “يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات كل شخص عسكري أو مدني تعمد بالقول أو بالحركات أو بواسطة الكتابة أو الرسوم أو الصور اليدوية والشمسية أو الأقلام بمحل عمومي تحقير العلم أو تحقير الجيش والمس من كرامته أو سمعته أو معنوياته أو يقوم بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم أو انتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس كرامتهم“.
كما أكد الفصل 8 وهو فصل جديد ألغي وعوض بمقتضى القانون عدد 56 لسنة 2000 المؤرخ في 13 جوان 2000، على محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري بصفتهم فاعلين أصليين في الجرائمالتي تختص البتّ فيها أو كمشاركين”.
ورغم إدخال تنقيحات جزئية على مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة في المرسوم عدد 69 المؤرخ في 29 جويلية 2011، إلا أنها لم تُلغِ ولاية المحاكم العسكرية على المدنيين وعلى الجرائم غير العسكرية التي يرتكبها عسكريون، وأبقت الباب مفتوحاً أمام المؤسسة العسكرية لتستدعي مَن تشاء ليمثل أمام قضائها”.
وبالعودة إلى الدستور التونسي لسنة 2014 نلاحظ وجود تناقض بين نصوصه وعمل المحاكم العسكرية، حيث نصّ الفصل 31 على “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”، ورغم ذلك تمت محاكمة مدونين بسبب تدويناتهم.
في المقابل ينص الفصل 108 من الدستور على أنه “لكل شخص الحق في محاكمة عادلة في أجل معقول والمتقاضون متساوون أمام القضاء“، بينما يؤكد الفصل 149 على أنه “تواصل المحكمة العسكريّة ممارسة الصّلاحيّات الموكولة لها بالقوانين السّارية المفعول إلى حين تنقيحها بما يتماشى مع أحكام الفصل 110”.
حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”الفصل 31 من الدستور
في هذا الصدد، يؤكد الأستاذ عبد الرؤوف العيادي، لـ “ضاد بوست”، أن “محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري تتعارض كليا مع دستور الجمهورية الثانية لأن الدستور اعتبرها محاكم متخصصة لا يمثل أمامها إلا العسكريون أو ضباط السلطة”.
ويرى العيادي أن ‘التوجه نحو محاكمة المدنيين والمدنيات أمام القضاء العسكري ليس إلا إجراء سياسي لترهيب المعارضين وإسكات الأصوات الناقدة والمعارضة”. يضيف العيادي قائلا “القضاء العسكري لا يزال قضاء استثنائيا يعمل بالتعليمات، مثل ما حصل في قضية ياسين العياري أو في قضية شفيق جراية عندما قالت محكمة التعقيب بوضوح أن القضاء العسكري غير مختص في النظر في قضايا المدنيين”.
محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إجراء سياسي لترهيب المعارضين
ويتحدث مروان جدّة، المدير التنفيذي لمرصد الحقوق والحريات، عن محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري حيث يقول إن “هذه المحاكمات بدأت في تونس بعد الثورة، تحديدا سنة 2013 عندما تمت محاكمة مستشار الرئيس السابق، أيوب المسعودي أمام القضاء العسكري قبل أن تتوسع أكثر لتترصد المحاكم العسكرية كل من ينتقد المؤسسة العسكرية وقياداتها وكل ما يتعلق بها”.
واعتبر جدة في حديثه لـ ‘ضاد بوست’، أن “الفصول القانونية التي يقع استنادا لها محاكمة المدنيين توجه تهما خطيرة جدا للمتهمين مثل المسّ من معنويات الجيش ومحاولة قلب النظام والتحريض، وهي تهم تصل عقوبتها في بعض الأحيان إلى الإعدام”.
وتابع مروان جدّة حديثه قائلا “بعد 25 جويلية ارتفعت وتيرة المحاكمات العسكرية للمدنيين خصوصا تعامل القضاء العسكري مع ما يعرف بـقضية المطار التي تمت فيها محاكمة نواب من ائتلاف الكرامة والمحامي مهدي زقروبة”.
القضاء العسكري يوجه تهما للمدنيين تصل عقوبتها إلى الإعدام”مروان جدة
واعتبر محدثناأن “قضية المطار تورط القضاء العسكري لأن القضية وقعت أحداثها في مارس 2021 وتعهد بها القضاء العدلي إلا أن المحكمة العسكرية قررت فتح هذه القضية بعد حوالي 5 أشهر من وقوعها”.
يضيف جدة قائلا “اليوم كل المعارضين مهددون بالإحالة على القضاء العسكري وأن مثل هذه المحاكمات في ارتفاع متواصل رغم أن الدستور التونسي يمنعها ويضمن الحق في حرية التعبير وأن القضاء العسكري يختص في الجرائم العسكرية.
ويرى جدة في ذات السياق أنه يمكن محاكمة كل من يعتدي على الوحدات الأمنية أو رئيس الجمهورية أمام المحاكم العدلية لا العسكرية.
كل المعارضين مهددون بالإحالة على القضاء العسكري
قلق دولي
وصلت أصداء محاكمة المدنيين إلى العالم، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، إن “الولايات المتحدة قلقة وخائبة الأمل حيال التقارير الأخيرة من تونس التي تتعلق بحرية الصحافة والتعبير واستخدام المحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية”، وفق ما أوردته قناة الحرة الأمريكية.
وأضاف برايس “أن الحكومة التونسية يجب أن تلتزم بتعهداتها باحترام حقوق الإنسان كما هو محدد في الدستور التونسي ومثل ما تم التأكيد عليه في المرسوم الرئاسي 117”.
من جهتها، عبرت منظمة “المادة 19” عن قلقها من توظيف الفصل 91 من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة ضدّ الصحفيين والمدوّنين، معتبرة أنه يتعارض كليا مع الفصلين 31 و49 من الدستور التّونسي وكذلك الفصل 19 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة.
الولايات المتحدة قلقة حيال استخدام المحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية”الخارجية الأميركية
وتؤكد أن “القانون الدّولي يشترط أن يكون كلّ تقييد لحريّة التّعبير مرتكز على سند قانوني واضح وصريح ويجب أن يستهدف غرضا من الأغراض المشروعة والمحدّدة في المادّة 19 فقرة 3 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة كما يجب أن يحترم مبدأ التّناسب أي أن يكون متناسبا مع الغرض المشروع”.
وتقول منظمة “المادّة 19” إنّ الفصل 91 يستخدم مصطلحات غير دقيقة مثل “الكرامة” أو “السّمعة” أو “الأعمال التي من شأنها أن تضعف روح النظام العسكري” أو “المعنويّات”، وهي مصطلحات يمكن تفسيرها بطريقة ذاتيّة أو حتّى اعتباطيّة ولذلك فالفصل 91 ليس دقيقا وواضحا بما فيه الكفاية للاستجابة إلى متطلّبات القانون الدّولي”.
الفصل 91 يستخدم مصطلحات غير دقيقة… يمكن تفسيرها بطريقة ذاتيّة أو حتّى اعتباطيّة”منظمة المادة 19
كما أوصت في أكثر من مناسبة بإبطال الفصل 91 من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة دون تأخير وفي انتظار هذا التّعديل التشريعي توصي المنظمة باتخاذ إجراء وقتي يقضي بامتناع كافة المحاكم عن تطبيقه.
دور الجيش قبل الثورة
قبل الثورة كان الجيش الوطني التونسي حبيس الثكنات حيث اختار الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة إبعاد الجيش عن الشأن السياسي، لكنه اعتمد بشكل كبير على وزارة الداخلية لإحكام قبضته على السلطة وهي خطوة سلكها بعده زين العابدين بن علي الذي وصل إلى الحكم عام 1987.
ويرى الباحث في القانون محمد العفيف الجعيدي “أن الثورة هي التي أعادت القضاء العسكري إلى واجهة المشهد القضائي بعدما أسندت إليه مهمة النظر في قضايا شهداء وجرحى الثورة وسط صمت حقوقي وسياسي لافت”.
وفي هذا السياق، يقول العميد المتقاعد في الجيش الوطني، الهادي القلسي، لـ ‘ضاد بوست’، إن “الجيش الوطني ورث عقيدة وحيدة فترة حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وهي أنه لا دخل له في الحياة السياسية”.
وأضاف الهادي القلسي في حديثه “بورقيبة حرص على إبعاد الجيش الوطني عن الشأن السياسي لكنه سمح له بالتدخل لقمع المتظاهرين في أحداث الخبز في جانفي 1984″، واصفا هذا التدخل بـ ‘الخطأ الفادح’.
واعتبر القلسي أن ذلك التدخل جاء بمثابة دعم من جنرالات الجيش لزميلهم الجنرال زين العابدين بن علي الذي كان حينها يشغل خطة مدير عام الأمن الوطني في وزارة الداخلية، مشيرا إلى أنها كانت المرة الوحيدة والاخيرة التي خرج فيها الجيش لقمع متظاهرين.
وأضاف محدثنا وهو أحد المحاكمين في قضية “براكة الساحل”، أنّه “منذ تلك الفترة كان الجيش يتدخل فقط لحماية المؤسسات العمومية فقط، مشيرا أيضا إلى أن بورقيبة قام بإنشاء محكمة أمن الدولة (مدنية) وهي محكمة استثنائية لإصدار أحكام قضائية ضد خصومه بتعليمات سياسية دون اللجوء للقضاء العسكري”.
وأوضح القلسي أن “المحاكم العسكرية لا تتبع وزارة العدل مثل المحاكم العدلية وإنما تخضع وزارة الدفاع الوطني وبالتالي فهي تخضع لرئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما ليس للمحاكم المدنية أي صلة برئيس الدولة وهي مستقلة”.
يضيف قائلا: “عام 1988 قام بن علي بإلغاء محكمة أمن الدولة على أساس أنها محكمة استثنائية وغير عادلة لكنه التجأ صائفة 1992 إلى المحكمة العسكرية لمحاكمة كوادر من حركة الاتجاه الإسلامي وعسكريين بتهمة قلب نظام الحكم”.
واعتبر الهادي القلسي أن “بن علي وقتها لجأ إلى ربط قضية براكة الساحل بقضية حركة الاتجاه الإسلامي كي يتمكن من محاكمتهم أمام القضاء العسكري باعتبار وجود طرف عسكري في القضية”، حسب قوله.
الجيش الوطني لا يتدخل في السياسة
تتعالى إذا الأصوات الرافضة لتواصل محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وتنادي أصوات أخرى بضرورة النأي بالمؤسستين الأمنية والعسكرية عن الصراعات السياسية التي تعيش على وقعها البلاد، في حين يرى حقوقيون ومختصون في القانون أن ‘المس من معنويات الجيش’ و ‘هضم جانب موظف عمومي’ هي تهم جاهزة نتيجة قوانين قديمة وغير محيّنة.