تنقيح المرسوم 88 … “حصن” المجتمع المدني ينهار
بعد أكثر من عشر سنوات من تاريخ سقوط نظام زين العابدين بن علي، تؤكد كل الأرقام والتقارير المحلية والدولية أن تونس نجحت في تكوين نسيج جمعياتي ثري ومتنوع، ليكون تطور أنشطة المجتمع المدني أحد أهم مكاسب ثورة 2011.
وساهم المرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 ديسمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات، في إنشاء أكثر من 14 ألف جمعية جديدة تنشط في جميع المجالات منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعتمد أغلب هذه الجمعيات على تمويلات وهبات من دول أجنبية.
لكن يبدو أن هذا المرسوم لن يصمد طويلا في ظل الفترة الاستثنائية التي تعيشها البلاد، فقد تم تسريب نسخة منقحة للمرسوم قامت بصياغته الإدارة العامّة للجمعيات في رئاسة الحكومة دون تشريك الجمعيات والمنظمات، وعرضته على الوزارات للاطلاع وإبداء الرأي بخصوصه، على ان يصدر لاحقا بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
الجمعيات والإجراءات الاستثنائية
ستلقي الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ 25 جويلية الماضي، بظلالها على حرية التنظم وعمل منظمات المجتمع المدني، حيث تعتزم رئاسة الحكومة تنقيح المرسوم 88 لسنة 2011 الخاص بالجمعيات، على أن يقع بموجب هذه التنقيحات منع الجمعيات المحلية من الحصول على تمويلات من جهات أجنبية.
وفي 24 فيفري الماضي، هاجم رئيس الجمهورية منظمات المجتمع المدني أثناء اجتماع له مع الفريق الحكومي بشدة، حيث قال إنه “لا بدّ من اتخاذ نص يمنع تمويل الجمعيات من الخارج، لأنهم في الظاهر جمعيات، لكنهم امتداد لقوى خارجية، ولن نسمح بأن تأتي هذه الأموال للجمعيات للعبث بالدولة التونسية أو للقيام بالحملات الانتخابية تحت غطاء تمويلات أجنبية”.
وأضاف قائلا “سنتخذ مثل هذا الأمر للإحاطة بكل الجوانب، ولكن لا مجال لأن يتدخل فينا وفي اختياراتنا أحد بأمواله وبضغوطاته، فنحن شعب له سيادته، ولا مجال للتلاعب بالقوانين حتى يتم شراء الذمم وتهريب الأموال عن طريق هذه الجمعيات”.
المرسوم 88
يعتبر ناشطون في منظمات المجتمع المدني المرسوم 88 مكسبا هاما من مكاسب الثورة التونسية، ويرون أن صياغته تمت بطريقة تشاركية وبنفس ثوري وتحرري حتى أنه أصبح حصنا منيعا يحميهم من خطر التضييقات.
في المقابل، يرفضون النسخة المنقحة من المرسوم والتي من المنتظر أن تصدر بالرائد الرسمي ويرون أن صياغتها تمت بطريقة أحادية وهي “خطر داهم يهدد وجود الجمعيات”.
وصدر المرسوم عدد 88 المتعلق بتنظيم الجمعيات في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 21 أكتوبر 2011، وتم تأريخه في 24 سبتمبر 2011، ويتضمن 9 أبواب بها 49 فصلا تتعلق بتنظيم عمل الجمعيات.
وأكد تقرير العمل المالي الخاص بقطاع المنظمات غير الهادفة للربح، أن المرسوم 88 يتوافق مع المعايير الدولية.
وتم بموجب هذا المرسوم الذي سنته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة إلغاء القانون الأساسي عدد 25 لسنة 1992 الذي قام بالتضييق على إنشاء الجمعيات وجعلها تابعة لوزارة الداخلية وتخضع لرقابتها التامة.
القانون الأساسي عدد25 لسنة 1992
و”يضمن المرسوم 88 حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها وإلى تدعيم دور منظمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها”، كما يسمح في بابه السادس المتعلق بالأحكام المالية على أن “موارد الجمعية تتكون من اشتراكات الأعضاء، المساعدات العمومية، التبرعات والهبات والوصايا وطنية كانت أو أجنبية”.
في المقابل ينص المرسوم الجديد الذي تحصلت “ضاد بوست” على نسخة منه، “على ‘أنه لا يمكن للجمعيات تلقي المساعدات والتبرعات والهبات من دول أجنبية لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية كما أن هذه الجمعيات مدعوة للحصول على ترخيص من لجنة التحاليل المالية قبل تلقي أي تمويل أجنبي”.
نسخة مسربة من التنقيحات الخاصة بالمرسوم 88
كما ينص المشروع على صيغة جديدة لحل الجمعيات وهي الحل الآلي بقرار صادر عن الإدارة المكلفة بالجمعيات برئاسة الحكومة، وهي صيغة تضاف إلى صيغة إصدار حكم قضائي لحلها.
كما ينص الفصل العاشر من المرسوم المنقح على أنه “يمكن للإدارة المكلفة بالجمعيات برئاسة الحكومة، عند التعارض الواضح بين النظام الأساسي للجمعية ومقتضيات الفصول 3 و4 و10 من هذا المرسوم، أن تتخذ مقرراً معللاً في رفض تكوين الجمعية، وذلك في غضون ستين يوماً من تاريخ تسليم المكتوب المشار إليه أعلاه. ويكون مقرر الرفض المرسل للجمعية بمثابة إرجاع لبطاقة الإعلام بالبلوغ”.
وهذا يعني أن المرسوم المنقح يشترط الحصول على الموافقة من الإدارة التابعة لرئاسة الحكومة لتكوين جمعية في حين أن فصل المرسوم الحالي ينص فقط على الإعلام في تكوين جمعية على الرّاغبين في تأسيس جمعية أن يرسلوا إلى الكاتب العام للحكومة مكتوبا مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ.
كما يمنع الفصل 35 من المرسوم المنقح الجمعيات من قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات أجنبية غير مرخص لها من اللجنة التونسية للتحاليل المالية، كما تم اشتراط وجود مصلحة لدى الجمعية للتمتع بحق النفاذ إلى المعلومة.
رفض وتنديد
يرفض ناشطون في منظمات المجتمع المدني تنقيح المرسوم 88 خصوصا أن التعديلات التي وقع إضافتها للمرسوم تمت بطريقة فردية دون تشريكهم أو استشارتهم، معتبرين هذه الخطة بمثابة ”رغبة للانفراد بالحكم من نظام لا يعترف بقيمة المجتمع السياسي والمدني في تونس”.
وفي بلاغ تم نشره بداية شهر مارس الماضي، عبرت عشرات الجمعيات والمنظمات عن رفضها مشروع تنقيح المرسوم عدد 88 لسنة 2011 “لما يحمل في طيّاته من تضييق على حرية تأسيس الجمعيات وحرية العمل الجمعياتي في تونس كما أقرّها الدستور والاتفاقيات الدولية المُصادق عليها من الدولة التونسية”.
وأكدت هذه الجمعيات “استيائها العميق للمنحى الأحادي الذي تُواصلُ مؤسسات الدولة اتّباعه دون تشاركية ولا حوارات جدّية مع الشركاء المعنيّين حول حرية التنظيم وحرية التعبير والضمانات الأساسية للحريات العامة والفردية”، معتبرة أن التصريحات الصادرة عن رئاسة الجمهورية تتضمّنُ “تجنّيًا ومسًّا من مصداقية عديد المناضلين الجمعياتيين”.
وأشارت الجمعيات والمنظمات الموقعة إلى “تمسّكها بمكتسبات الثورة وخاصة منها المُتّصلة بالحقوق والحريات وأنّ كل مشروع أو محاولة لتعديل المرسوم 88 يجب أن يتمّ بعد انتهاء حالة الاستثناء في شكل قانون أساسي، وأن يكون بتشريك المعنيين به من منظمات وجمعيات في اتجاه تطوير مكتسبات المرسوم وليس بالتراجع عنها “.
كما اعتبرت الجمعيات أنّ نسخة المرسوم المنقّح المتداولة، “تُمثلُ انتكاسة وضربًا للحقّ في تكوين الجمعيات وإنشاء الفروع والشبكات والاندماج بينها، وتحدُّ من حقّ الأفراد في الترشح إلى الهيئات التمثيلية المحلية والجهوية والوطنية، وتُضيّقُ على الحقّ في النفاذ إلى المعلومة ونشرها إلى العموم، وتُثقلُ كاهل الجمعيات بالالتزامات والإجراءات الإدارية غير المُبرّرة”، وفق نص البيان.
ويرفض المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (أحد الموقعين على البيان)، تنقيح المرسوم 88 لسنة 2011, لكنه في المقابل يدعم مبدأ الشفافية في مراقبة العمليات المالية للجمعيات ومنظمات المجتمع المدني.
وفي حديث لـ “ضاد بوست”، قال رمضان بن عمر، عضو المنتدى إن المرسوم 88 لسنة 2011 يعد مكسبا من مكاسب الثورة وهو يستجيب إلى كل المقاييس الدولية الخاصة بحرية التنظم.
يضيف بن عمر قائلا: “نحن نرى أن ذهاب رئاستي الجمهورية والحكومة نحو تعديل هذا المرسوم هو ذهاب في مسار أحادي يهدف لإقصاء منظمات المجتمع المدني والتضييق عليها “.
لم يخف محدثنا مخاوفه من أن نية السلطة الحالية تنقيح المرسوم قد تكرس لعودة هيمنة السلطة التنفيذية على مسألة التنظم وعمل المجتمع المدني والجمعيات.
في المقابل، يقر رمضان بن عمر بوجود “تجاوزات وإخلالات صلب منظمات المجتمع المدني خاصة في بعض المنظمات التي كانت لديها شبهات علاقات بالإرهاب والسياسة وهذا لا يمكن انكاره وحسم فيه القضاء منذ زمن بعيد”.
يواصل “وبالتالي لا يمكن تعميم التجاوزات التي وقعت والسعي للتضييق على منظمات المجتمع المدني التي مثلت صمام أمان في السنوات العشر الأخيرة وقدمت الإضافة في عديد المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
ويؤكد أيضا أن الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني في تونس ملتزمة بالشفافية المالية حيث تقدم سنويا تقاريرها المالية لرئاسة الحكومة فتكشف فيها مصادر التمويل والهبات كما تخضع أيضا إلى رقابة الآليات الجديدة لمحكمة المحاسبات والمنظمات وصرح بكل عملياتها المالية.
المرسوم 88 يستجيب للمقاييس الدولية
من جهتها، قالت نائلة الزغلامي، رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، في حديثها لـ ‘ضاد بوست’، إن منظمات المجتمع المدني في تونس ترى أن المكاسب التي جاءت بها الثورة أصبحت مهددة بما فيها المرسوم 88 الخاص بتنظيم عمل الجمعيات في تونس.
وأضافت الزغلامي “نحن نعتبر أن تنقيح المرسوم 88 بطريقة أحادية هو ضرب لمكاسب المجتمع المدني وسعي لتضييق الخناق عليه والتوجه تدريجيا لإلغاء دوره في البلاد”.
النسخة المسربة من المرسوم 88 ستضيق الخناق على المجتمع المدنينائلة الزغلامي
وتابعت قائلة “نحن غاضبون من توجه السلطة الحالية تنقيح المرسوم المذكور وحسب النسخة المسربة فإن التنقيحات الجديدة ستضيق الخناق على المجتمع المدني وقد تهدد وجوده”.
وترى محدثتنا أنه بات من الضروري تطبيق كل فصول المرسوم 88 وليس تنقيحه لأنه يتضمن كل المعايير المطلوبة وفيه ما يكفي من الضمانات لمراقبة مصاريف وتمويلات الجمعيات التي تحترم القانون.
وختمت حديثها قائلة “نحن في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ملتزمون بالقانون ونرسل سنويا التقرير المالي لرئاسة الحكومة ونقوم بنشره في إحدى الصحف المحلية وعبر الموقع الرسمي للجمعية، وليس لدينا ما نخشاه”.
هيمنة السلطة التنفيذية
من جهته، يرى منير الشرفي، رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة، المرسوم 88 هو مرسوم تقدمي شاركت في صياغته أطراف تقدمية ومناضلة، وأنه لا يوجد أي مبرر لتنقيحه.
وأضاف الشرفي في حديث لـ “ضاد بوست”، أن التنقيحات على بعض الفصول في المرسوم الحالي تضر بالعمل الجمعياتي وتحد من حرية الجمعيات وتسمح للسلطة التنفيذية بوضع يدها على تمويلات وأنشطة المجتمع المدني.
لا يوجد أي مبرر لتنقيح المرسوم 88 لسنة 2011منير الشرفي
وأكد محدثنا أنه سيصبح بإمكان رئاسة الحكومة طبقا للمرسوم المنقح الحق في إنهاء نشاط جمعية حسب ما تراه هي صالحا دون أي مبررات أو معايير وهذا غير مقبول ويمثل خطرا داهما يهدد السلطة الخامسة (منظمات المجتمع المدني).
ويعتبر الشرفي ان الجمعيات والمنظمات تمثل قوة ضغط واقتراح وبناء وأن الحد من هذه القوة يعني السطو على هذا المكسب الهام الذي جاءت به الثورة.
ويختتم حديثه قائلا “اليوم جميع السلطات في يد شخص واحد وستصبح الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني أيضا بيد رئاسة الحكومة وهو ما يشكل خطرا داهما على الحريات بصفة عامة، كان من المفروض أن يقع تحسين المرسوم وليس تنقيحه”.
خطوة إيجابية
رغم الرفض الواسع لتنقيح المرسوم 88، تساند بعض الأطراف الداعمة لرئيس الجمهورية قيس سعيد هذا التوجه وتعتبره خطوة إيجابية للحد من تدفقات التمويلات الأجنبية المشبوهة والقضاء على التدخلات الخارجية التي تتم تحت غطاء جمعياتي.
وترى بعض الأطراف أن عشرات الجمعيات في تونس باتت مجرد غطاء لتمويل الأحزاب السياسية وأذرع لجهات أجنبية مقابل أموال طائلة يقع ضخها بطريقة منتظمة.
وتساند رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، راضية الجريبي، قرار رئيس الجمهورية بضرورة وضع رقابة على تمويل النسيج الجمعياتي في تونس.
وتقول الجربي في حديثها لـ “ضاد بوست”، إن المرسوم 88 لسنة 2011 يحتاج فعليا إلى بعض التنقيحات، معتبرة أنه كان سببا في ظهور جمعيات تخدم الفكر الظلامي ولا تؤمن بحقوق الانسان، حسب قولها.
وأضافت أن عديد الجمعيات تختفي وراء العمل الجمعياتي وتظهر اهتمامها بالعمل الخيري وحقوق المرأة وهي في الحقيقة لديها أهداف أخرى تخدم جهات سياسية وإيديولوجية مقابل مبالغ مالية ضخمة.
من جهته، يرى القيادي في حركة الشعب، أسامة عويدات، أنه بات من الضروري الذهاب نحو إقرار تنقيحات على المرسوم 88 المتعلق بعمل الجمعيات.
وتابع عويدات أن “التعديلات يجب أن تفرض رقابة صارمة على التمويلات والهبات التي تتحصل عليها الجمعيات الناشطة في تونس وذلك لتفادي شبهات تبييض الأموال والإرهاب ولقطع التمويلات على الأحزاب السياسية التي باتت تلجأ لبعض الجمعيات للحصول على دعم مالي من دول أجنبية”.
لكن في المقابل، يرى محدثنا أن هذه التعديلات لا يجيب أن يكون الهدف منها التضييق على نشاطات المجتمع المدني والعمل الجمعياتي أو تقييد الحقوق والحريات في تونس.
النسيج الجمعياتي في تونس
جاء في مخطط التنمية 2016_ 2020 أن النسيج الجمعياتي يعد قطاعا قائما بذاته وشريكا هاما لمؤازرة المجهود الوطني الرامي إلى تجذير قيم المواطنة وتأمين انخراط مختلف الشرائح الاجتماعية في المسار التنموي وتحقيق توازن تنموي بين الجهات.
وينصّ الفصل 35 من الدستور التونسي على أنّ “حرية تكوين الجمعيات مضمونة وعلى أن تلتزم الجمعيات في أنظمتها الأساسية وفي أنشطتها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف”.
وكانت العشرية الأخيرة بمثابة الربيع الذي أزهر فيه المجتمع المدني بعد عقود من الوصاية والاحتكار، حيث شهدت البلاد طفرة غير مسبوقة في عدد الجمعيات التي بلغت وفق آخر تحيين لرئاسة الحكومة حوالي 24333 جمعية إلى غاية 19 أفريل 2022، معظمها تنشط في تونس العاصمة.
وحسب آخر إحصائية نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات، التابع لرئاسة الحكومة، فإن ولاية تونس تحتضن أكبر عدد من هذه الجمعيات بـ 4938 جمعية تليها ولاية صفاقس بـ 1836 جمعية فولاية نابل بـ 1446 جمعية ثم ولاية أريانة بـ 1261 وولاية سوسة بـ 1224 ثم ولاية مدنين بـ 1065جمعية فبن عروس بـ 1054 جمعية وبنزرت بـ 1014 جمعية.
واستأثرت الجمعيات ذات النشاط الثقافي والفني بالنصيب الأوفر من مجموع الجمعيات بنسبة 19,74 بالمائة، تليها الجمعيات الناشطة بالمجال المدرسي بـ 19,41 بالمائة، ثم الجمعيات الرياضية بنسبة 12,18 بالمائة.
وكان للجمعيات الخيرية والاجتماعية النصيب الأوفر في المشهد الجمعياتي في تونس بنسبة 11,17 بالمائة، تليها الجمعيات ذات النشاط التنموي بـ 10,38 بالمائة ثم الجمعيات العلمية بنسبة 7,5 بالمائة والوداديات بـ 5,58 بالمائة.
آخر تقرير لمركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات
ولم تكن الطفرة غير المسبوقة في الجمعيات من فراغ أو دون نتيجة تذكر، بل إن منظمات المجتمع المدني ساهمت في حماية الانتقال الديمقراطي ولعل أبرز دليل على ذلك هو نجاح الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين في جمع الفرقاء السياسيين حول طاولة الحوار في 2013 عندما كادت العمليات الإرهابية والاغتيالات التي استهدفت ناشطين بارزين تعصف بالبلاد.
وتمت مكافأة الرباعي الراعي للحوار الوطني على نجاحه في الخروج بالبلاد من الازمة السياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها بمنحه جائزة نوبل للسلام سنة 2015.
من جهة أخرى، ساهمت الجمعيات من معاضدة مجهودات الدولة بشكل واضح في الكوارث الطبيعية وفي أزمة فيروس كورونا وفي الإحاطة بالفئات الهشة وفاقدي السند ومراقبة الانتخابات، فكان دورها إيجابي رغم بعض الهنات والتجاوزات.
وعلى الرغم من الطفرة غير المسبوقة التي عرفها النسيج الجمعياتي في تونس خصوصا في السنوات الثلاث الأولى التي تلت ثورة 14 جانفي 2011، فإن إنشاء وتكوين الجمعيات بدأ يتراجع تدريجيا، ففي الوقت الذي تم فيه إنشاء 2088 جمعية سنة2011 وهو رقم كبير تم سنة 2015 تسجيل 612 جمعية جديدة فقط.
تهم تلاحق الجمعيات
على الرغم من أهمية النسيج الجمعياتي في دولة ديمقراطية ناشئة وما يمثله من قوة ضغط، فإن عشرات الجمعيات تواجه تهما بالحصول على تمويلات أجنبية مشبوهة باعتراف من بعض الأحزاب السياسية والمنظمات، ما دفع بعض الحكومات إلى اتخاذ إجراءات تقيد عمل الجمعات وتفرض رقابة على تمويلاته.
وبداية شهر مارس 2022، أحالت اللجنة التونسية للتحاليل المالية بالبنك المركزي ملفات 36 جمعية على القضاء بشبهة تمويل الإرهاب وفساد مالي والاستيلاء على أموال جمعية من المُسيرين.
وأوضح لطفي حشيشة، رئيس اللجنة، أن التصاريح المالية المتعلقة بهذه الجمعيات تناهز 35 مليون دينار، مشيرا إلى أنه ‘ هناك تعاون وتعامل كبير بين لجنة التحاليل المالية والإدارة العامة للجمعيات برئاسة الحكومة ولجنة مكافحة الإرهاب إضافة إلى محكمة المحاسبات’.
وكانت حكومة مهدي جمعة أول من شنت حربا على منظمات المجتمع المدني سنة 2014 عقب عملية إرهابية دامية بجبل الشعانبي، وانتهت هذه الحرب بإصدار قرار بتجميد نشاط 157 جمعية دينية بتهمة ‘تمويل الإرهاب’.
وفي 2017 بدأت الدولة في تشديد الرقابة على منظمات المجتمع المدني وذلك بعد إصدار تقرير مجموعة العمل المالي لمكافحة غسل الاموال التي صنفت تونس ضمن قائمة الدول المعرضة لتمويل الفساد ومقاومة الإرهاب وغسل الأموال. كما تم اقتراح تنقيح المرسوم 88 وهو ما رفضته منظمات المجتمع المدني بشدة.
كما تم تنقيح القانون الأساسي المتعلق بمقاومة الإرهاب ومنع غسل الأموال بالقانون الأساسي عدد 9 لسنة 2019 مؤرخ في 23 جانفي 2019 والقانون عدد 52 لسنة 2018 مؤرخ في 29 أكتوبر 2018 المتعلق بالسجل الوطني للمؤسسات والذي وبعد دخول هذا القانون حيز النفاذ في 06 فيفري 2019 تم تشديد الرقابة على تمويلات الجمعيات عن طريق المؤسسات البنكية.
وتقول منظمات المجتمع المدني إنه كان على الحكومات تدعيم الموارد البشرية في هياكل المراقبة صلب الإدارة العامة للجمعيات ومحكمة المحاسبات ووزارة المالية لحيلولة دون تسرب الأموال المشبوهة واستغلال الجمعيات من قبل أطراف اجنبية لتنفيذ مخططاتها.
ويرى عماد الزواري، ناشط بالمجتمع المدني، أن الحكومات المتعاقبة حاولت منذ 2014 التضييق على العمل الجمعياتي وإدخال تنقيحات على المرسوم 88 بشكل أو بآخر.
وأكد عماد الزواري أن التنقيحات الحالية التي وقع إدخالها على المرسوم خانقة للحريات مؤكدا ‘أن الأطراف المدنية لن تقبل بتنقيح المرسوم 88 والمرسوم 87 المنظم للأحزاب وبالإطار القانوني المنظم لحرية الصحافة والإعلام في هذا الوضع الاستثنائي التي تعيشه البلاد، وفق قوله.
وتابع قائلا “هذه المراسيم لديها قيمة قانونية وتمثل مبادئ تقوم عليها الديمقراطية لا يمكن المساس بها في ظل الإطار الاستثنائي”.
تمويل الجمعيات
يعتبر التمويل الأجنبي أحد مصادر الدعم المتاحة للجمعيات بموجب المرسوم عدد 88، وجاء في تقرير محكمة المحاسبات أن “حجم التمويلات الأجنبية التي استفادت بها الجمعيات، وفق المعطيات المتوفرة لديها، بلغت 68 مليون دينار سنة 2017 و78 مليون دينار سنة 2018 في وقت لم تلتزم 566 جمعية بإعلام الكتابة العامة للحكومة بتلقيها تمويلات أجنبية المصدر”.
بلغ حجم تمويلات الجمعيات سنة 2017 حوالي 68 مليون دينار
وأضافت محكمة المحاسبات، في تقريرها 32 الصادر في 2021، والذي يغطي الفترة الممتدة من 2015 إلى 2019، أن الارقام التي توصلت اليها أعلى من تلك التي أوردها البنك المركزي التونسي والتي تقارب 27 مليون دينار سنة 2017 و17 مليون دينار سنة 2018.
وبينت المحكمة أن أرقام البنك المركزي التونسي المتعلقة بحجم التمويلات الاجنبية للجمعيات تمثل 41 بالمائة من الحجم المتوقع لسن 2017 و22 بالمائة لسنة 2018.
ولفت التقرير إلى أن الكتابة العامة للحكومة لا تتوفر على الآليات الضرورية للتفطن لكل المخالفات المرتكبة بهذا الخصوص وتسليط العقوبات المستوجبة وهو ما يثبته عدم علمها بتمويلات للجمعيات بقيمة لا تقل عن 31.8 مليون دينار.
وخلصت المحكمة الى أن ضعف متابعة برامج التعاون الدولي من قبل وزارة الشؤون الخارجية والوزارة المكلفة التعاون الدولي ومحدودية التنسيق بينهما ادى الى عدم تحديد مبالغ التمويلات الاجنبية وان وزارة الخارجية لا تتوفر لديها اي بيانات بخصوص التمويلات التي تحصلت عليها الجمعيات في إطار التعاون الدولي.