اغتيال الرئيس… “إشاعة” رسمية
“اغتيال رئيس الجمهورية”.. رواية ظهرت أوّل أطوارها عندها أشيع في بعض وسائل الإعلام أنّ “أحدهم” دسّ السمّ في عجين الخبز (باقات) في إحدى المخابز ليقدمها إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد محاولا اغتياله، وهو ما أكّدته رئاسة الجمهورية فنشرت خبرا في 21 أوت 2020 مفاده محاولة تسميم الرئيس عن طريق خبز اقتناه من مخبزة في المنطقة التي كان يقطنها.
ثمّ ظهرت بداية سنة 2021 رواية “تسميم” جديدة مفادها أنّ “أحدهم” حاول اغتيال رئيس الجمهورية قيس سعيد عبر طرد بريدي يحتوي مادة مشبوهة إلاّ أنّ “الضرر” طال مديرة ديوانه نادية عكاشة وأحد موظفي القصر الرئاسي.
روايتان كانتا محل سخرية من رواد مواقع التوصل الاجتماعي فضلا عن عدد من مكوني المشهد السياسي من أحزاب ونواب، مقابل مصادقة الحزام الداعم لرئيس الجمهورية على ما جاء في بلاغات رئاسة الجمهورية داعين إلى الكشف عن الحقيقة.
ملفات اغتيال …
حقيقة أدلت بها وزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان مساء يوم الخميس 24 جوان 2021، حيث أعلنت خلال جلسة عمل انعقدت بمقر وزارة العدل، أنه تم ختم الأبحاث في الواقعة المتعلقة بشبهة استهداف رموز الدولة تبعا لحادثة الظرف المسموم ودسّ مادة مشبوهة بعجين الخبز، وصدر قرار بالحفظ لعدم كفاية الحجة.
وأشارت إلى أنّ نتائج الاختبارات الفنية المجراة على الظرف المسموم جاءت سلبية وما تزال الاستقراءات بشأن هذا الملف متواصلة.
ويأتي ذلك في إطار تفاعلها مع ملاحظات النواب واستفسارات أعضاء مكتب اللجنة القارة التشريعية لتنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح يسري الدالي (رئيس اللجنة) وآمنة حميّد (مقررة) ويمينة الزغلامي، وأعضاء من مكتب اللجنة الخاصة للأمن والدفاع، نور الدين العرباوي (رئيس اللجنة) وماهر زيد (نائب الرئيس) ونبيل حجي (مقرر)، كما حضر الجلسة رئيس ديوان وزيرة العدل وعدد من سامي إطارات وزارتي العدل والداخلية.
وأوضحت وزيرة العدل بالنيابة أنّ قضيّة “دسّ مادة مشبوهة بعجين الخبز والظرف المسموم “حظيت بمتابعة من قبل النيابة العمومية والجهات القضائية وفُتحت في شأنها تحقيقات قضائية منذ حدوثها وتكفلت بها الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية”.
لكن، رواية “التسميم” ليست الطور الوحيد في “رواية اغتيال رئاسة الجمهورية” بل واصل رئيس الجمهورية الإفادة بأنّ “أحدهم” يخطط مع “أطراف خارجية” لاغتياله، وفي هذا الصدد أفادت وزارة العدل أنّ “الوزيرة حسناء بن سليمان أذنت إلى الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس بإجراء الأبحاث والتحريات اللازمة لما تمت إثارته وما يتم تداوله بخصوص محاولة اغتيال رئيس الجمهورية في 15 جوان الجاري، والقيام بالتتبعات المستوجبة على ضوء ذلك”.
وأضاف بلاغ صدر الخميس 17 جوان 2021 عن وزارة العدل أن قرار وزيرة العدل بالنيابة يأتي تطبيقا لأحكام الفصل 23 من مجلة الاجراءات الجزائية.
ذلك أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد صرح خلال لقائه برؤساء الحكومة السابقين ورئيس الحكومة الحالي أن “من كان وطنيا مؤمنا بإرادة شعبه لا يذهب إلى الخارج سرا بحثا عن طريقة لإزاحة رئيس الجمهورية بأي شكل من الأشكال حتى بالاغتيال، ألا بئس ما خططوا وبئس ما فعلوا”.
من جهتها، قرّرت النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، فتح بحث تحقيقي ضدّ كل من سيكشف عنه البحث من أجل “العزم المقترن بعمل تحضيري لارتكاب جرائم قتل لها صبغة إرهابيّة والانضمام إلى تنظيم إرهابي والتآمر على أمن الدولة”، وذلك في علاقة بتصريح رئيس الجمهورية، وفق ما صرّح به الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائيّة بتونس محسن الدالي لوكالة تونس إفريقيا للأنباء.
وتعهدت النيابة العمومية بالمراسلة الواردة عليها من وزارة العدل عن طريق الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بتونس والمتعلقة بتصريح رئيس الجمهوريّة الوارد بمقطع فيديو منشور على الصفحة الرسمية فايسبوك لرئاسة الجمهورية في 15 جوان الجاري والذي قال فيه “يوجد من سافر خلسة إلى خارج البلاد التونسية لأزاحته من منصبه حتى بالاغتيال”.
ولم يحد سعيد في حديثه المتواصل عن “الغرف المظلمة” التي تخطط إلى إزاحته من الحكم عبر المؤامرات بتنظيم الدسائس، على غرار الحديث مستهل عام 2021 عن محاولة تسميمه بواسطة “طرد مشبوه”، وبقيت هذه القضية معلقة إلى أن ظهرت رواية التخطيط من طرف “أحدهم” بالتنسيق مع قوة خارجية لاغتيال أعلى هرم السلطة السياسية في تونس.
فالإشارة إلى “أطراف” و”غرف مظلمة” تستهدف اغتياله أو الإطاحة به، لم تصدر عن رئيس الجمهورية لأوّل مرّة بل ضجت وسائل الإعلام بأنّ “الرئيس التونسي قيس سعيد يتعرض إلى محاولة تسميم”، وهو عنوان رئيسي تصدر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وذلك يوم 27 جانفي 2021، ويقول الخبر الذي سُرِّب عبر وسائل التواصل الاجتماعية وأحد المقربين لقصر قرطاج فضلا عن إذاعة “موزاييك” ووكالة تونس إفريقيا للأنباء، يقول إنّ “رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد للتّسميم عبر طرد بريدي يحمل مادّة الرّيسين السّامة، ومادة “الريسين” هي مادّة قاتلة تستخرج من “الخروع” وهي نبتة موجودة في تونس وفي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط ويتمّ استخراج هذا السمّ من بذور هذه النّبتة الّتي تسبّب الموت على الفور”.
وهي تصريحات فشلت رئاسة الجمهورية في إثباتها فأغلق القضاء الملف لعدم كفاية الحجة، وهو ما أثبت أنّ “رواية التسميم” مجرد “إشاعة” رئاسية لم يتضح بعد الهدف من وراء ترويجها.
تسريبات تجانب الحقيقة…
يذكر أنّه انجر عن خبر “الطرد المسموم” فرز وتفقّد للرّسائل الوافدة على قصر الرّئاسة حسب ما ورد في إحدى الصّفحات الّتي تحمل اسم رئيس الجمهوريّة على شبكة التّواصل الاجتماعي (حذفت الخبر في ما بعد وأيضا عدد من وسائل الإعلام).
وتداولت الخبر عديد المصادر الإعلاميّة على غرار إذاعة “موزييك أف أم” فقالت إنّ مصادر مطّلعة في رئاسة الجمهوريّة أكّدت أنّ الطرد المشبوه لم يصل إلى رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد، وهو ما الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى الاتصال برئيس الجمهورية قيس سعيد للاطمئنان على صحته.
وبعد يوم من الصمت الرسمي، أصدرت رئاسة الجمهوريّة يوم 28 جانفي 2021 على صفحتها الخاصّة على موقع التّواصل الاجتماعي “الفيس بوك” بلاغا توضيحيّا مفاده أنّ رئاسة الجمهورية كانت قد تلقّت يوم الاثنين 25 جانفي 2021 حوالي الساعة الخامسة مساء طردا بريديّا خاصّا موجها إلى رئيس الجمهورية يتمثّل في ظرف لا يحمل اسم المرسل.
وأشار نفس المصدر إلى أنّ مديرة الدّيوان الرئاسي نادية عكاشة تولّت فتح هذا الظرف فوجدته خاليا من أي مكتوب، ولكن بمجرّد فتحها له تعكّر وضعها الصحيّ وشعرت بحالة من الإغماء وفقدان شبه كلّي لحاسّة البصر، فضلا عن صداع كبير في الرّأس واستوجبت حالتها التوجّه إلى المستشفى العسكري للقيام بالفحوصات اللاّزمة، والوقوف على أسباب التعكّر الصحيّ المفاجئ.
وهي حالة أصيب بها أحد الموظّفين بكتابة رئاسة الدّيوان عندما كان موجودا عند وقوع الحادثة وشعر بنفس الأعراض ولكن بدرجة أقلّ، حسب نفس البلاغ، وقد تم وضع الظّرف في آلة تمزيق الأوراق قبل أن يتقرّر توجيهه إلى مصالح وزارة الدّاخلية ولم تحدّد طبيعة المادّة الموجودة داخل الظّرف.
بلاغ أسال الحبر وعمّق الحيرة في صفوف متابعي الشأن السياسي، ذلك أنّ مديرة الديوان الرئاسي حضرت اجتماع مجلس الأمن القومي في اليوم والساعة التي قيل إنّ صحتها تعكّرت فيها وتمّ نقلها إلى المستشفى العسكريّ !!! وهو ما وصفته وسائل إعلام أجنبية بالغموض خاصّة بتزامن الخبر مع فترة منح الثقة لحكومة هشام المشيشي.
من جانبه، كان الناطق الرّسمي باسم النيابة العمومية في تونس محسن الدالي أكّد في تصريحات تلفزية، حينها، أن نتائج الاختبارات الفنية للظرف المشبوه الذي وصل إلى قصر الرئاسة والتي أجرتها مصالح المخابر الجنائية في وزارة الداخلية “أثبتت خلوه من أي مواد سامّة أو مخدرة أو متفجرة أو خطرة”، مشيرا إلى أنّ الاختبار الّذي أجري على الظّرف تمّ دون علم النّيابة العموميّة، وذلك يوم 29 جانفي 2021.
واعتبر رئيس الحكومة هشام المشيشي في تصريح إعلامي أنّ استهداف رئيس الجمهوريّة هو استهداف لتونس وللشّعب التّونسي، مشيرا إلى أنّ رئاسة الحكومة قد قامت بفتح تحقيق للبحث في الموضوع.
وقبل الاطلاع على نتائج التّحقيق عبّرت عديد الأطراف عن دعمها لرئاسة الجمهوريّة حيث تلقّى قيس سعيّد مكالمة هاتفيّة من الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي أعرب فيها عن تضامنه، وأدانت حركة النّهضة العمليّة ووصفتها بـ “العمليّة الدّنيئة” الّتي تستهدف رئاسة الجمهوريّة وعبّر رئيس مجلس النّواب راشد الغنّوشي في مكالمة أجراها مع رئيس الجمهوريّة عن تضامنه.
وعبّر حزب قلب تونس عن “استنكاره الشّديد” لحادثة “استهداف” رئاسة الجمهوريّة بواسطة “ظرف مشبوه”.
من جانبه، شكك الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، يوم 1 فيفري 2021 في حوار على قناة فرانس 24، في رواية الطرد المشبوه الذي تلقته رئاسة الجمهوريّة، معتبرا أنها مجرد تمثيلية مثيرة للضّحك وأنه لا توجد مادّة تصيب بفقدان البصر والإغماء بمجرد فتح طرد بريديّ.
وفي هذا الصدد، كشفت المجلة الإخبارية الفرنسية “مغرب إنتلجنس” المتخصصة في المعلومات المرتبطة بمجالات الأمن والديبلوماسية والشؤون الاقتصادية للدول المغاربية، عن معلومات نسبتها إلى “مصادر موثوقة من المستشفى العسكري بتونس”، مفادها أنّ نقل نادية عكاشة، مدير الديوان الرئاسي بقصر قرطاج، إلى المستشفى الشهر الماضي (جانفي 2021)، لم يكن بسبب ما روّجت له رئاسة الجمهورية عن تعرّضها إلى حادث تسمّم بسبب فتحها ظرفا مشبوها.
وذكر موقع “مغرب إنتلجنس”، في مقال بعنوان، “نادية عكاشة: حاكمة قرطاج ضحية تلقيح سرّي”، استنادا إلى “مصدر موثوق بالمستشفى العسكري بتونس العاصمة”، فإن دخول نادية عكاشة مديرة ديوان رئيس الجمهورية التونسية إلى المستشفى لم يكون له أي صلة بأي تسمم بل ظهرت عليها أعراض الانفلونزا الحادة والإرهاق والحمّى الشديدة وآلام الجسم.
وأضاف الموقع، أنّه بعد أن اطّلع الأطباء على التحاليل المخبرية، اعترفت عكاشة أمام الإطار الطبّي بأنها تلقت حقنة لتخفيف الآلام وأنها لم تكن على علم بطبيعة المادة المحقونة.
وتابع “المصدر” أنّ مديرة الديوان الرئاسي كانت تعاني من بعض الآثار الجانبية الحادّة من حقنة تلقتها في اليوم السابق لإدخالها المستشفى، ورفضت عكاشة الكشف عن اسم الطبيب وموقع عمله، وفق المعلومات التي أدلى بها “المصدر”.
ورجّح الموقع أن تكون نادية عكاشة حقنت بتلقيح مضاد لفيروس كورنا، مشيرا إلى التسريبات التي تتحدث عن حملة التطعيم ضد “كورونا” التي استفادت منها دائرة صغيرة جدا من حاشية الرئيس قيس سعيّد.
وإنّ ملف ما عرف بـ”الهبة الإماراتية من التلاقيح” لازال يكتنفه الغموض ولم يعرف مصيرها إلى حدّ الآن، إلا أنّ آخر التصريحات بشأنها كانت على لسان وزير الدفاع الوطني إبراهيم البرتاجي لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، حيث أوضح أن التلاقيح المضادة لفيروس “كورونا” التي تلقتها رئاسة الجمهورية في شكل هبة من الإمارات العربية المتحدة من نوع “سينوفاك” (صيني الصنع) لم يتحصل على تراخيص من السلطات الصحية التونسية والهياكل المختصة بوزارة الصحة، ولذلك تم تخزينه لدى مصالح الصحة العسكرية، طبقا لشروط الحفظ المستوجبة، في انتظار الحصول على التراخيص اللازمة.
وأضاف الوزير، في رده على سؤال شفاهي للنائب نضال السعودي (كتلة ائتلاف الكرامة)، خلال جلسة عامة يوم بمجلس نواب الشعب، بخصوص الهبة المذكورة، وهي 1000 جرعة تلقيح، قالت رئاسة الجمهورية إنها وضعتها على ذمة الإدارة العامة للصحة العسكرية، مؤكدا أنه لم يتم استعمال أي جرعة من هذه التلاقيح، بسبب عدم الحصول على ترخيص.
بينما رُوِّج سياسيا أن هذه التلاقيح تمّ توزيعها على كبار المسؤولين والسياسيين وقيادات أمنية، في ظل تعطل إجراءات الحصول على الكميات الأولى من التلاقيح. (مقام بحث سيعود إليه “ضاد بوست” في مقال لاحق).
وكانت رواية “الطرد” مصدرا للسّخرية خاصّة بعد كشف النّيابة العموميّة أنّ الطّرد البريديّ لا يحتوي على مادّة سامّة، كما وصفها أستاذ التّاريخ السّياسي المعاصر بالجامعة التوّنسيّة عبد اللّطيف الحنّاشي في تصريح لموقع “ضاد بوست” بالحادثة الغريبة الّتي يصعب تصديقها “لأنّ الأمر صعب أمنيّا وإداريا كما أنّ التّحدّث عن إعدام الطّرد يبدو مسترابا”، على حدّ قوله، معتبرا أنّه “من الضّروريّ تحميل مديرة الدّيوان الرّئاسي المسؤوليّة والتّحقيق في الموضوع للاطلاع على أسباب ترويج هذه الإشاعة”، معتبرا أنّها “قضيّة دولة”.
وأكّد الحنّاشي أنّ “هناك احتمالات عديدة للأسباب الّتي تمّ لأجلها ترويج هذه الإشاعة في هذه الفترة بالذّات منها الظّرفيّة بسبب اهتزاز صورة رئيس الجمهوريّة لدى الرّأي العام والرّغبة في إعادة الاهتمام به خاصّة أنّ العمليّة فاشلة منذ البداية… كما أنّ نتائج التّحقيق ظلّت غامضة وكان من المفروض تحميل رئاسة الجمهوريّة والأمن الرّئاسي المسؤوليّة “، حسب قوله.
وأضاف أستاذ التّاريخ السّياسي المعاصر أنّ “الإشاعة موجودة منذ ظهور السّلطة وتساهم في حدّة الأزمات والخلافات السّياسيّة ومجعولة لإرباك الحياة السّياسيّة والسّلطة وتبيّن مدى ضعف النّظام واهتزازه وتضرب الجهاز الأمني”.
اغتيالات مسمومة…
تاريخيا، اختلفت تداعيات وأسباب محاولات تسميم الزّعماء في مختلف أنحاء العالم ويشوب هذه القضايا اللبس والغموض وتظلّ ملامح الحقيقة فيها ضبابيّة وسريّة رغم مرور الزّمن عليها فلا تكشف ملابساتها ولا خلفيّاتها بكلّ دقّة.
وتهدف عادة عمليّات أو محاولات التّسميم في عالم السّياسة إلى طمس حقيقة أو إخماد شعلة صوت ثائر أو للقضاء على شخصيّة تحظى بشعبيّة كبرى لدى الجماهير والشّعوب ولتنفيذ الاغتيالات السّياسيّة وتصفية المعارضين.
ورغم أنّ المؤرّخين يؤكّدون أنّ دسّ السّم ظاهرة قديمة جدّا وجدت في أركان قصور الأباطرة والملوك والسّلاطين والأمراء إلاّ أنّ حالات التّسميم لا تزال موجودة في العصر الحديث وأصبحت بأشكال مختلفة وأكثر سريّة.
وقد عرف التّاريخ اغتيالات عبر السمّ منذ العصور القديمة حيث تمّ سنة 101 هجري الموافق لسنة 720 ميلادي تسميم ثامن الخلفاء الأمويين عمر بن عبد العزيز الذي عرف بعدله وشدّة إقباله على العلم ويشير بعض المؤرّخين إلى أنّ خادمه هو الفاعل.
وسنة 183 هجري توفي موسى الكاظم بن جعفر في سجنه، وهو الإمام السّابع لدى الشّيعة، ويشير عدد من الرّوايات إلى أنّه وقع تسميمه عبر الأكل.
وبتاريخ 15 أكتوبر 1959 تمّ اغتيال السّياسي الأوكراني “ستيبان بانديرا” وهو قائد عن الحركة الوطنيّة في أوكرانيا وزعيم منظّمة القومييّن الأوكرانيين , وهي منظّمة أنشأت في النّصف الأوّل من القرن العشرين قامت بمقاتلة البولنديّين ثمّ تحالفت مع النّازيين ضدّ الإتّحاد السّوفياتي ومن أهدافها السّعي للحصول على إستقلال أوكرانيا ليتمّ حضرها عند صعود الإتّحاد السّوفياتي للحكم .
واغتيل “بانديرا” بطريقة بشعة وذلك برشّ غاز “السيانيد” ودفن في إحدى المقابر الألمانيّة بمدينة ميونيخ، وقد أعلن القضاء الألمانيّ بعد مرور سنتين على وفاته أنّ قاتله هو عميل سابق للكي جي بي ويدعى “بوهدان ستاشينسكي”.
وفي سبتمبر 1978 “كان السياسي البلغاري المنشق جورجي ماركوف ينتظر الحافلة بالقرب من جسر ووترلو بلندن عندما وخزه رجل بمظلة شمسية في رجله وسقط لتوه مريضا وأُدخل المستشفى وكان رأس هذه المظلّة يحمل حبيبات محشوة بسم الرّيسين، الذي يوصف بأنه “جد السّموم الروسية، ويصف البعض الحادثة بـ”حادثة المظلّة”.
في 25 سبتمبر 1997 تعرّض رئيس المكتب السياسي السابق لحركة “حماس” إلى محاولة تسميم بتوجيهات من رئيس الوزراء الصهيوني “بنيامين نتنياهو” والجهاز الأمني التّابع له حيث دخل 10 عناصر من الموساد إلى الأردن بجوازات سفر كنديّة أين كان يقيم مشعل وهو حامل للجنسيّة الأردنيّة وحقن بمادّة سامّة أثناء سيره في الشّارع في عمّان، لكنّ السّلطات الأردنيّة ألقت القبض على اثنين من عناصر الموساد وطلب ملك الأردن الّرّاحل الحسين بن طلال من “نتنياهو” المصل المضاد للمادّة السّامة، وعند رفضه تدخّل الرّئيس الأمريكي “بيل كلينتون” وأرغم “نتنياهو” على تقديم المصل المضادّ للسمّ المستعمل فرضخ للأمر وتمكّن مشعل من النّجاة.
وفي الشيشان وقع الزعيم الشيشانيّ تسميم سيف الإسلام خطّاب في 20 مارس 2002، من قبل أحد العملاء بإيعاز من الجيش الرّوسيّ برسالة مسمومة أدّت إلى مقتله، وتمّ إصدار بيان رسميّ حول وفاته بعد أسبوعين يوضّح طريقة الوفاة وكيفيّة التسلّل عبر فيديو تمّ تصويره لجثّة خطّاب بعد وفاته.
وكان خطاب يرى أن تطبيق شرع الله هو الهدف من الجهاد وأنّ نصرة المسلمين واجب شرعي لا يترك، تميّز بخططه وفكره العسكري وتمّت مناقشة نظريّاته في الجهاد وأطروحاته كثيراً من قبل العسكريين فترة من زمن وأرّخت وحللت مميزاتها وفوائدها التي وصفها أحد الخبراء الرّوسيين بأنها جهنّميّة ووصفها خبير آخر بأنها شيطانيّة.
وتوفي الرّئيس الفلسطيني الرّاحل ياسر عرفات يوم 11 نوفمبر 2004 في إحدى المستشفيات بباريس بعد محاصرته من طرف الجيش الصهيوني داخل مقرّه على امتداد سنتين، ورغم أنّ الأطبّاء أكّدوا أنّ سبب الوفاة هو تلف الكبد إلاّ أنّه لم يتمّ تشريح الجثّة ممّا طرح فرضيّة تسميمه ليظهر بعد سنوات تقرير لخبراء سويسرييّن من معهد لوزان للفيزياء الإشعاعيّة ويقرّ بأنّ الرّئيس الرّاحل عرفات توفي نتيجة تسمّمه بالبولونيوم210 بعد إجراء تحاليل على رفاته والّتي أظهرت نسبة عالية من هذه المادّة لم تكن متوقّعة.
وبتاريخ 26 ديسمبر 2004 تعرّض المرشّح الأبرز للانتخابات الرّئاسيّة الأوكرانيّة “فيكتور ياشنكو” إلى محاولة التّسميم فاختفى عن المنافسة الانتخابية ليظهر بعدها مشوّها نتيجة تعرّضه لجرعة شبه قاتلة من مادّة الدّيوكسين، وقد وجّهت أصابع الاتهام إلى الاستخبارات الرّوسيّة والأوكرانيّة.
إذا فإنّ عمليّات التّسميم لم تفارق عالم السياسة عبر التاريخ، وهو تفكير ذهب إليه الأستاذ عبد اللّطيف الحنّاشي الّذي يشير إلى أنّ “الظّاهرة موجودة منذ العصور القديمة والوسطى وأيضا العصر الحديث الّتي تطوّرت من التسميم عبر الأكل إلى تسميم الأوراق والملابس والرّسائل والمحيط لتتطوّر الوسائل المستخدمة إلى مخطّطات مخابراتيّة عادة تكون الأسباب إمّا سياسيّة أو اجتماعية”.
ورغم أنّ التّسميم ظلّ سلاحا فتّاكا منذ العصور القديمة وتواصل إلى اليوم والوسائل اختلفت لتطويره إلاّ أنّه يظلّ وسيلة تقليديّة على حدّ تعبير أستاذ التّاريخ في الجامعة التّونسيّة محمد ضيف اللّه الذي أكّد في تصريح لـ”ضاد بوست” أنّ “الرّصاص عوّض السمّ في الاغتيالات باعتبار أنّ طمس معالم الجريمة يكون بفضل الأجهزة المخابراتيّة الّتي تعمل على ذلك”، مشيرا إلى أنّ “الرّئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي تمّ اغتياله بطلقات ناريّة قاتلة في وضح النّهار ولم تعرف الأيادي الخفيّة المتسبّبة في ذلك على مرّ عقود من الزّمن”.
بيّن التّاريخ أنّ محاولات التّسميم الّتي طالت القادة والمعارضين وغيرهم في مختلف أنحاء العالم كان لها أثرها إماّ بقتل الضحيّة أو بظهور مخلّفات صحيّة لها إلا أنّ العمليّة التي طالت رئيس الجمهوريّة قيس سعيد تبدو غريبة الأطوار والمخلّفات، سيما أنّ النّيابة العموميّة بيّنت أنّ الطّرد لا يحتوي على مواد سامّة بينما أكّدت رئاسة الجمهوريّة في بيان لها أنّ مديرة الدّيوان الرّئاسي نادية عكاشة تعرّضت إلى حالة إغماء وأثار جانبيّة على مستوى البصر.
أما رواية محاولة الاغتيال ومن سافر إلى الإعداد لها، فلم تجد النيابة العمومية لها أثرا إلا على لسان رئيس الجمهورية الذي لم يقدم ما يفيد روايته. حتى أنّ العالم لم يتفاعل هذه المرة مع إعلان قيس سعيد واكتفى بالصمت.
إذا أثبتت التحريات أنّ ما روّجت له رئاسة الجمهورية بشأن محاولتي تسميم رئيس الجمهورية كان مجرّد “إشاعة” رسمية صدرت عن أحد رؤوس السلطة التنفيذية ودعمها مؤيدوه إعلاميا دون أن يكون لها أيّ أثر واقعيّ إلاّ في قصص الأولين والزعماء عبر التاريخ، فلم يخرج رئيس الجمهورية عن ولعه بالتاريخ وأمجاد الغابرين ممن سبقوه، ففشل اتصاليا وسياسيا في الترويج إلى صورة “الزعيم الجديد”.
وساهمت هذه “الإشاعة” في الحط من الصورة الخارجية لتونس، ذلك أنّ الملاحظة الأبرز أنّ العديد من قادة الدول تواصلوا مع قيس سعيد في قضية “الطرد” بينما لم يلق أحدهم بالا لما ورد على لسانه في روايته الأخيرة بشأن التخطيط لاغتياله استعانة بأطراف خارجية. ويعمل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب على الكشف عن حقيقة هذه التصريحات.