بذورنا الأصلية.. أمننا الغذائي حبيس التشريعات ولوبيات التوريد
ساهمت الأزمة الروسية الأوكرانية في ارتفاع جنوني لأسعار الحبوب على المستوى العالمي، مما أثّر في ارتفاع ميزانية الدعم في تونس في ظلّ تدهور قيمة الدينار مقارنة بالأسعار العالمية، وفق ما أكّده الدكتور في العلوم الاقتصادية سليم بوصباح.
ونبّه بوصباح من إمكانية أن تكون تونس من بين الدول المهدّدة بالمجاعة، إذا استمرت الحرب الروسية الأوكرانية، مفسّرا ذلك بارتفاع أسعار الحبوب على المستوى العالمي وارتفاع أسعار المواد الغذائية في تونس، وذلك خلال ندوة لمنتدى التعاون التونسي الأوروبي بالعاصمة حول تداعيات جائحة “كورونا” والنزاع الروسي الأوكراني على العلاقات التونسية الأوروبية، وفق ما نقلته إذاعة “موزاييك”.
مجاعة تواتر الحديث عنها عقب الجائحة العالمية “كورونا”، عقب انغلاق معظم الدول على نفسها واتخاذ إجراءات منع السفر توقيا من انتشار العدوى، ثمّ طفت إلى السطح كإحدى تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا (مارس 2022)، ذلك أنّ الدوليتين من أهم مصدري الحبوب في العالم. وحاليا تسعى جميع الدول إلى تحصين مواردها الغذائية.
في تونس، تعالت الأصوات المطالبة بعودة اعتماد بذورنا التونسية الأصلية كحل للهروب من تبعية الغرب والحفاظ على جودة المنتوج وعلى أمننا الغذائي خاصة بعد سيطرت “لوبيات التوريد” على القطاع الفلاحي باستيراد البذور “الهجينة” والأدوية من الخارج.
فأين اختفت بذورنا التونسية الأصلية؟
ولما لجأت تونس إلى البذور الموردة؟ ما الفرق بينهما؟
أيّ دور لهياكل الدولة في خضم هذا؟
تحذيرات مستمرة ولكن …
تمكنت تونس من استرجاع عينات من مخزون بذورها الأصلية من الخارج في فترة حكم الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي حيث أعلن بنك الجينات آنذاك عن استرجاع ألف و705 عينة من البذور التونسية الأصلية التي كانت موجودة في بنك جينات أستراليا، لتعزز مخزوناته بنوعيات اندثرت.
واعتبر المرزوقي، حينها، أن استرجاع البذور الأصلية قضيته الشخصية باعتبارها “مسألة أمن قومي”، مثلها مثل قضية المياه حيث طرح مسألة البذور وذلك في كلمته بمناسبة عيد الجلاء الزراعي سنة 2014، مشيرا إلى ضرورة تحرر تونس من تبعية الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات التي تبيع بذورا هجينة ومسرطنة بتواطؤ من نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، لجعل تونس في تبعية غذائية وفلاحية لتلك اللوبيات وفقدانها لاستقلاليتها واكتفائها الذاتي من مادة البذور.
وأكد المرزوقي أن الحكومات المتعاقبة تجاهلت تحذيراته المستمرة من مخاطر إغراق السوق بالبذور المهجنة، مقابل “انقراض بذورنا الأصلية ذات الجودة العالية والقدرة على التأقلم مع المناخ ومقاومة الجفاف”.
تصريح المرزوقي، كان محل سخرية وتندر على مواقع التواصل الاجتماعي، فاعتبر البعض أنّ الموضوع لا يرتقي إلى أن يكون مسألة “أمن قومي”.
مدير بنك الجينات السابق مبارك بن ناصر ساند المرزوقي إلى ما ذهب إليه من تحليل حيث أكد أن نحو 90% من البذور الخاصة بالخضراوات مهجنة يتم استيرادها من الخارج، مما يجعل البلاد في تبعية تامة للشركات الأجنبية متعددة الجنسيات التي تسيطر على سوق البذور كما حذر بن ناصر من غياب أي إطار تشريعي وقانوني يحمي البذور التونسية، ويمنع تهريبها إلى الخارج وأشار إلى وجود أكثر من 11 ألف عينة من البذور التونسية الأصلية في بنوك جينات موزعة حول العالم موضحا أن ما نعيشه هو معركة سيادة وطنية.
تخلي تونس عن بذورها المحلية، وإغراق السوق بالهجينة من أميركا وأوروبا انطلقت منذ التسعينيات
واصل موضوع البذور التونسية وضرورة استرجاعها جلب اهتمام أعلى هرم السلطة حيث تطرق إليه رئيس الجمهورية قيس سعيد، حيث قال إنّه “لا خير في شعب يأكل بذوره من وراء البحار”، وفي لقاءه بأعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة والصيد البحري بتاريخ 05 أفريل 2022 شدد على أنه “لا بد من تحقيق الاكتفاء الذاتي والرجوع إلى البذور التونسية حتى لا تبقى بلادنا رهن من يبيع البذور التي لا تثمر إلا لموسم واحد”.
وحسب المختصين في الشأن الفلاحي تمتاز البذور الأصلية بقيمتها الغذائية العالية وقدرتها على التأقلم مع المناخ منذ آلاف السنين، مقارنة بمثيلاتها المهجنة المستوردة، خاصة مع مخاطر النقص المسجل في مادة البذور التي تكرر كل موسم تقريبا مما بات يهدد الأمن الغذائي للتونسيين.
وإنّ تخلي تونس عن بذورها المحلية، وإغراق السوق بالهجينة من أميركا وأوروبا انطلقت منذ التسعينيات، وتواصلت في ظل غياب أي إستراتيجية وطنية للحفاظ على المخزون المحلي من البذور.
عدد من الفلاحين أكدوا تمسكهم بالبذور التونسية وعدم رغبتهم في اقتناء المستوردة حفاظا على الهوية الوطنية ونظرا إلى الامتيازات الكبيرة التي تحملها هذه البذور من بينها القيمة الغذائية حيث يضغط هؤلاء لاقتلاع اعتراف رسمي وتسجيل عدد من أصناف هذه البذور بالسجل الوطني للبلاد التونسية مغتاظين من منعهم من تكثير وتداول هذه الأنواع من البذور في ما بينهم بعد صدور بلاغ من وزارة الفلاحة والموارد المائية يذكر بذلك.
الفلاحون: نعيش التضييقات والإغراءات
حسن الشتيوي فلاح بولاية منوبة أكد لـ “ضاد بوست” أنه من بين الفلاحين الذين اختاروا الإبقاء على اعتماد البذور التونسية الأصلية دون البذور المستوردة بعد أن قام بتجربة في “الطماطم والدلاع” لتكون النتيجة سيئة على مستوى المردود المادي وعلى مستوى الأراضي التي لم تعد ذات خصوبة عالية، حسب قوله.
وأضاف الشتيوي “رئيس الجمهورية ناقش مع اتحاد الفلاحين الموضوع لكن الاتحاد لا يمثل كل الفلاحين ولا كل التونسيين، نحن نرغب أن يجتمع بوزير الفلاحة وعدد من المسؤولين الساهرين على القطاع ليتحاور معهم بخصوص مساعدة الفلاحين على استرجاع ثروتنا عوض هرسلتنا ومهاجمتنا”.
وواصل قائلا “تمّ قطع الماء عن أرضي كي لا أتمكن من سقي القمح التونسي خاصتي مع العلم أنني أمتلك 50 نوعا من القمح لا تمتلكه الدولة وهذا شرف لي كما أنني أوزع البذور مجانا كل سنة مع تقديم طريقة زراعتها، رغم أنه من الطبيعي أن يكون هذا عمل الدولة لكننا نضطلع طواعية بهذا الدور وهذا ما جعل السلط مؤخرا تتحرك في انتظار مبادرة جدية من رئيس الجمهورية لترسيم البذور الأصلية وحل الملف كي لا نسقط في إشكال تشريعي أو في صراعات مع الإدارة ولنتحرر من التبعية فحرب روسيا في أوكرانيا فرصة للخروج من التبعية”.
تعرضنا إلى الهرسلة وهكذا يتم التلاعب بقوتنا
وتابع محدثنا كلامه قائلا “بالنسبة إلى القمح والشعير والقصيبة لدينا مشروع اشتغلت عليه منذ 25 سنة لتحسين مردودية قمحنا التونسي دون اعتماد البذور القادمة من وراء البحار وكان اهتمامنا بالموضوع منذ دخول البذور المستوردة إلى البلاد في التسعينات وانتشار الأمراض الفطرية بشكل رهيب، نحن لم نذهب مع التيار وبقينا متشبثين بالقمح التونسي الذي يقاوم الجفاف والأمراض الفطرية وهو مميز على مستوى الجودة والقيمة الغذائية أيضا مقارنة بالقمح الذي ينتج من بذور مستوردة”.
وواصل قائلا “الدولة صارت تفكر مؤخرا بنفس طريقتنا وأرادوا أخذ المشروع والاشتغال عليه بهدف استرجاع بذورنا التونسية الأصلية وهذه ليست منة من الدولة بل هو حق ضائع سنسترده لأنها ثروة فرطنا فيها أو نُهبت لكننا نريد اليوم استرجاع هذه الثروة الجينية، كلمة بذور تعني جينات ونحن نريد استرجاع أصولنا وجيناتنا، ليس لدينا مشكل مع من يريد جلب البذور المستوردة بل هم لديهم مشكل معنا يريدون تعطيل عملنا وعرقلتنا”.
وانتقد محدثنا “تهديد” وزارة الفلاحة الذي وجهته إلى مستعملي البذور الأصلية غير المرسمة بالسجل الرسمي للبلاد التونسية، قائلا “للأسف الشديد وعار على التونسيين اعتماد بذور مرسمة وهي ليست بذورهم، فحين تتوجه إلى الرائد الرسمي التونسي تجد فيه بذور مرسمة ليست تونسية في المقابل تجد البذور التونسية غير مرسمة ويمكن للمشرع أن يتهمك كفلاح ويعاقبك أيضا لاستعمالك أو متاجرتك ببذور غير مرسمة، اليوم نجد بذور تجلبها شركات خاصة تصبح ملك الدولة، فالدولة اليوم تحمي البذور الهجينة على حساب بذورنا التونسية الأصلية”.
وقال الشتيوي خلال سرد شهادته لـ “ضاد بوست”، ” طالبنا رئيس الجمهورية عديد المرات بترسيم البذور التونسية الأصلية لكن الجهات الرسمية تجيب دائما أن قانون 1999 يمنع اعتماد البذور غير المرسمة، لكن ماذا عن البذور التي سبقت 1999 هل تونس دون بذور قبل ذلك دون قمح او شعير؟ حتى النباتات الطبية والعطرية ليست مرسمة بالبلاد التونسية مثل “الزعتر/ الحبق/ الفليو” وغيرها، آلاف الأنواع غير مرسمة، لماذا هذا التقصير من وزارة الفلاحة؟”.
وبخصوص البذور التونسية من الحبوب، أكد الشتيوي أنها “تقدم مادة علفية للحيوانات ومنذ التخلي عن البذور التونسية تصاعدت الأزمة في خصوص الأعلاف لتصل حزمة التبن 12 دينار فالبذور المستوردة لا تقدم مادة علفية فهي تقدم المنتوج فقط وأوضح محدثنا أن البذور الأصلية لديها بعد تاريخي ثقافي وصحي غذائي واقتصادي أيضا فهي تنشط الحركة الاقتصادية من خلال توفير الأعلاف للمواشي”.
وتابع قائلا “القمح المعد للأكل يتكلف القنطار منه على الدولة من حيث النقل فقط 18 دينار أي 63 دولار هذا دون احتساب إنزال الحمولة في الميناء وتوزيعها على الطواحين أو الديوان، الدولة اليوم تدفع آلاف المليارات الإضافية، نحن نستغرب من مثل هذه التصرفات عكس ذلك نحن كتونسيين نسلم قمحنا دون قبض الثمن إلا لاحقا ونوصل الحمولة على حسابنا الخاص”.
منذ التخلي عن البذور التونسية تصاعدت أزمة الأعلاف فالبذور المستوردة لا تقدم مادة علفية بل المنتوج فقط
وأفاد الشتيوي أنّ “قمحنا قادر على أن يتم تعديله لينتج 3 أضعاف ما ينتجه القمح المستورد “قمحنا بشوية مطر يعمل صابة” ولا يترك آثارا في الأرض من تصحر أو فطريات ولا أمراض أما القمح المستورد فيخلق التصحر ويخلف العقم في الأراضي”.
وأضاف ضيف “ضاد بوست” أنّ “هناك مشكل كبير آخر وهو التلاعب بالسوق عن طريق الوسيط الذي وجب عدم السكوت على ممارساته فهو يتسلم القمح من الفلاحين كي يوصله إلى الدولة ومن هنا تنطلق عمليات التلاعب فيمكن أن يوصل نصف الحمولة فقط لأن لديه أسواق خارجية يتعامل معها ولديه طاحونة ومصنع للمعجنات “مقرونة” و”كسكسي”، يمكنه أن يتسلم القمح مع تأجيل دفع ثمنه بالدينار التونسي ثم يصنعه ويصدره ولهذا نجد أزمة في الغذاء، هم يتهمون المهربين والمحتكرين الذين لا ننكر وجودهم لكن ليس هذا مربط الفرس بل الداء يكمن في من أعطتهم الدولة التصرف في مراكز تجميع القمح والشعير فهم يخدمون مصالحهم تحت حماية الدولة”.
وهذا ما وقع العام الفارط فالدولة أحصت ثم صرحت بوجود 16.5 مليون قنطار من الحبوب في الحقول لكنها في شهر جويلية أعلنت تسلمها 7.9 مليون قنطار فقط وبقية الصابة ذهبت في عمليات التلاعب والتحيل بالطريقة المذكورة، وفق الفلاح حسن الشتيوي.
الداء يكمن في من أعطتهم الدولة التصرف في مراكز تجميع القمح والشعير فهم يخدمون مصالحهم تحت حماية الدولة
واعتبر أنّ “الدولة تمنع إخراج القمح التونسي لكن تسمح بجلب قمح للتصنيع، لكن الواقع أنّه يتمّ جلب القمح الأجنبي الفاسد الذي يمكن أن يحتوي على مواد كيماوية وتغيره بالقمح التونسي على أنه القمح الأجنبي الذي تم تصنيعه ليعود مجددا إلى البلد المعني وهذه المعطيات تغيب عن العديدين”.
حافظ كرباعة فلاح من منطقة بني حسان من ولاية المنستير، انطلقت تجربته منذ 3 سنوات أكد لـ “ضاد بوست” أنه زرع عددا من البذور التونسية للاستهلاك الشخصي لكن بعد مدة صار الإقبال على هذه البذور كبير فوسع الإنتاج ووزع الصابة مجانا على الفلاحة لحفاظ على أكثر كمية من البذور. ووزع السنة الفارطة كميات من البذور وسجلها في بنك الجينات لكن هذا العام عندما رغب في إعادة التجربة منعت وزارة الفلاحة ذلك، رغم عدم وجود قانون يمنع تقديمه للبذور الأصلية مجانا.
وقال كرباعة “عللت وزارة الفلاحة هذا المنع بانتقال الأمراض وكنت طالبت في عديد المناسبات بوجوب وجود عمليات تفقد من المصالح الرسمية وفعلا تم الأمر حيث كان الاتفاق على فض الإشكال على النحو الذي يرضي الطرفين لكن عند محضر الجلسة فوجئت بكوني سأوقع على التزام فحواه منعي من زرع أو تكثير أو توزيع بذور وإلا أتعرض إلى تتبعات عدلية”.
وتابع محدثنا “يوم 16 أفريل المنقضي وزعت بذورا وأعلمت الجهات المعنية بعد ذلك تحرك ممثلو وزارة الصحة وكانت لهم زيارة لمزرعتي وقد وضعت على ذمتهم الأرض والبذور، لكن الإشكالية اليوم هو وجود فراغ قانوني، هناك نص خاص بالموردين والمزودين ولكن هناك نص آخر غائب خاص بالمزارعين وهذا النص موجود في القانون الدولي صادقت عليه تونس ينصّ على أنّ من حق الفلاح الزراعة والإكثار والتبادل والبيع والتخزين لبذوره الأصلية وموروثه وهذا ما تمسكت به حيث طالبت بتفعيل القانون، وقد أقرت وزارة الفلاحة في شخص رئيس ديوان وزير الفلاحة بوجود نقص ووجود إشكالية قانونية سيتم التداول بخصوصها قريبا”.
نتعرض إلى إغراءات.. ويجب تفعيل القانون الدولي
وتابع قائلا “مؤخرا واجهت الكثير من الضغوطات، جراء تصريحاتي، من منظمات خارجية تستغل طلبة وباحثين تونسيين يسعون إلى إغرائي، وفي وقت سابق اتصل بي ممثل شركة تونسية تدعي أنها تابعة لوزارة الفلاحة مع شركة أخرى يريدون اقتناء بذوري والسبب رغبتهم في أخذها وتهريبها إلى الخارج وتحويرات ثم إعادتها إلى تونس كمنتوج مورد مشابه للبذور الأصلية شكلا لكن بعد تعديل جيناتها الأصلية”.
ويقول كرباعي إنّ “80 بالمائة من البذور الموردة هي من أصل تونسي وقع تعديلها بعد تهريبها إلى الخارج وبذورنا الأصلية لا تقارن بأي نوع آخر من حيث المذاق والجودة والقيمة الغذائية والمردودية مع الحفاظ على العملة الصعبة، اليوم الإقبال كبير على “الدلاع” القديم العربي، المتأتي من بذورنا الأصلية التونسي، فأنا أرفض استهلاك “الدلاع” من البذور الموردة الذي لا قيمة غذائية تذكر له من حيث الصحة والمذاق”.
80 بالمائة من البذور الموردة هي من أصل تونسي وقع تعديلها بعد تهريبها إلى الخارج
وشدد محدث “ضاد بوست”، على أنّه ليس ضد الموردين ولا الشركات التي تقتني البذور الموردة ولا يريد منعها من جلب البذور المهجنة أو المواد الكيميائية، معتبرا أنّ الخطأ مشترك فهناك فلاحون اختاروا البذور الموردة بحثا عن الكمية وهدفها ربحي بالأساس.
الاكتفاء الذاتي … المعادلة الصعبة
أكّد عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة والصيد البحري محمد رجايبية لـ “ضاد بوست” أن “كل البذور الموجودة لدينا هي بذور مكثرة في تونس ومسجلة في السجل الوطني للبذور إلا أن هناك بذور أصلية يريد بعض الفلاحين العودة إلى استعمالها، لكن التحدي الكبير بالنسبة إلى تونس هو الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وعليه لا بد من العمل على تحسين هذه البذور نوعا وكمَّا حتى تكون ذات مردودية عالية وتلبي الاستهلاك الداخلي لبلادنا”.
وتابع رجايبية أنّه “وجب العمل على المردودية ولعل الأصناف القديمة مازلت لا تلبي حاجياتنا من حيث المردودية وعليه لا بد من اللعب على هذا العنصر وهذا ما يجعل الفلاح يقتني أصنافا بعينها دون أصناف أخرى، فإذا رغبنا في تحقيق أهدافنا وكسب رهان المردودية يجب أن تتظافر جهود مؤسساتنا البحثية مثل المعهد الوطني للبحوث الزراعية للقيام باستنباطات جديدة أو تحسين البذور الأصلية حتى تلبي حاجيات الفلاح وتغطي كلفة الإنتاج مع هامش ربح حتى يستمر في نشاطه”.
“فمنذ عشرات السنين لم نصل إلى الاكتفاء الذاتي وصرنا نورد أكثر من 50 بالمائة من حاجياتنا كل سنة، ومن الخطوات السلبية التي أثرت على فلاحتنا وقطاع الحبوب على وجه التحديد هو اعتمادنا على القمح اللين بعد تغيير نمط تغذيتنا وعيشنا حيث صرنا نورد أكثر من 90 بالمائة من حاجياتنا فنحن غير قادرين على إنتاج ما نستهلك”، وفق رجايبية.
منذ عشرات السنين لم نصل إلى الاكتفاء الذاتي وصرنا نورد أكثر من 50 بالمائة من حاجياتنا كل سنة
وأفاد عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة أنّ “كل البذور المعتمدة اليوم مكثرة ومسجلة في تونس على غرار “الشيلي” و”الرزاق” و”الذهبي”، وفي العشريات الأخيرة اتجه الفلاحون إلى البذور الأكثر مردودية، ونحن نستهلك ما يقارب على 24 مليون قنطار من القمح اللين والصلب لذا وجب أن تكون لدينا أصناف ذات مردودية عالية”.
وتمثل الخضروات أكبر المعضلات، وفق رجايبية، إذ أصبحنا نستورد أكثر من 90 بالمائة من مشاتل الخضروات بعد تفريطنا في مشاتلنا، موضحا أنّ “بنك الجينات يعمل على استرجاع كل النباتات من حبوب وخضراوات وقرعيات، ونرجو أن يستمر هذا العمل لاستعادة مختلف الأصناف التي تم التفريط فيها، في المقابل القانون يمنع منعا باتا التفريط في أصنافنا الأصلية وتهريبها”.
وأضاف رجايبية قائلا “المعادلة صعبة هي أن يقع تحسين بذورنا الأصلية لتكون أكثر مردودية على مستوى الانتاج والإنتاجية توازيا مع تحقيق الاكتفاء الذاتي والتخلص من تبعية التوريد، أما على مستوى الفلاح فيجب وضع منظومة إرشاد كاملة متكاملة عصرية واعتماد الحزمة الفنية وتوفير مستلزمات الإنتاج فبرغم أننا بلد منتج للأسمدة صرنا بلدا موردا لها، خاصة بعد إشكاليات المجمع الكيميائي وتمويل الفلاحة والمديونية وعليه كل هذه أشياء يجب أخذها بعين الاعتبار”.
التحدي الكبير لتونس هو الوصول للاكتفاء الذاتي
منشور “الخريجي”
من جانبه، أكّد عضو النقابة الوطنية للفلاحين فوزي الزياني أن النقابة كانت من السابقين في تناول الملف سنة 2020، حيث تم عقد ندوة عن بعد عن البذور المحلية ومساهمتها في الاكتفاء الغذائي والمحافظة على السيادة الوطنية، وفي هذا السياق أمضت النفاية اتفاقية مع بنك الجينات في جويلية 2020.
وأضاف الزياني أنّها “قضية مركزية لها علاقة بالاستقلال الفلاحي والسيادة الوطنية الغذائية والدليل على ذلك الوضعية بعد أزمة “كورونا” والحرب في أوكرانيا، إذ أكدا على أهمية وجود سياسة فلاحية واضحة في هذا المجال والمجالات التي لها علاقة بالمواد الأساسية على غرار الحبوب والبطاطا، فنحن في قطاع الحبوب مثلا نورد في حوالي 65/70 بالمائة”.
وأوضح عضو نقابة الفلاحين أنّ “البذور الأصلية والمحلية تجنب الفلاح اقتناء بذورا غير مضمونة الجودة كل سنة وهذا ينسحب على كل البذور من طماطم وغيرها ومن مميزات بذورنا مقاومة الجفاف وهي ذات مردودية عالية أفضل من المستوردة لتعودها بمناخنا وتربتنا حتى خلال سنوات الجفاف فهي منتجة، كما أن التجارب العلمية أثبتت أن كمية البروتينات الموجودة في بذورنا الأصلية أكثر بكثير من البذور الأخرى وهذا له قيمة على مستوى التغذية وصحة المستهلك”.
وقال محدثنا إنّه “في السنوات الماضية (خاصة العشرية الأخيرة) ذهبت الدولة في تمشي مساعدة ودعم البذور المستوردة أكثر من بذورنا المحلية، ذلك أنّه في سنة 2020 أمضى وزير الفلاحة الأسبق أسامة الخريجي منشورا وسع في دعم البذور المستوردة، وهو ما كان ضربة قاضية للبذور المحلية، لأن إعطاء هذه البذور نفس امتيازات بذورنا المحلية فيه ضرب للمنتوج التونسي، خاصة أننا اكتشفنا أن البذور المستوردة التي يشيدون بمردوديتها ونجاعتها، ليست كما يتم تداوله فالتجارب أُنجزت في أرض بمواصفات ممتازة مع أسمدة وعناية ليبينوا أن مردوديتها ممتازة لكن عندما يقتني الفلاح هذه البذور ويتحول إلى منطقته لزراعتها تكون الإنتاجية مغايرة”.
وكشف الزياني أنّ “هناك مستورد وشركة كبرى فقط منتفعة بعمليات التوريد وتتعامل بالمليارات ولديها إمكانيات كبرى وقد أصدرنا بيانا في الغرض وقد اتصل بي المدير العام للشركة وخاطبني بتهديد مبطن لأننا شهرنا بهذه العملية وليس بالشركة على وجه التحديد لما فيه من ضرب للمنظومة وللبذور المحلية الأصلية وتكريس مبدأ التوريد، هم يؤكدون أننا قادرين على الإكثار من البذور المستوردة لكن باتصالنا بالباحثين أكدوا لنا أننا لا نستطيع الحديث عن بذور محلية أصلية إلا لو بقيت 50 سنة في نفس البلد”.
وتابع ممثل نقابة الفلاحين “البذور المحلية يجب أن يقع تقنينها وتشرف عليها معاهد بحث، بينما هناك من ركبوا على الأحداث وقدموا أنفسهم كخبراء، لدينا المعهد الوطني للبحوث الزراعية هذا مركز بحث معترف به والبنك الوطني للجينات ووزارة الفلاحة وهم مؤهلون لتقييم الأمور، هل يمكن أن تندرج تحت البذور الأصلية وتخضع إلى معايير معينة أم لا، أما من يريد هو نفسه أن يبيع ويشترى وأن يكون مرجعا فإن هذا يسئ إلى البحث العلمي ويمكن أن يعرض الفلاحين إلى نوعية من البذور غير السليمة قد تحتوي على فيروسات، يبدو أن وزارة الفلاحة تفطنت إلى أحد المدافعين عن هذه البذور وتم معاينة بذور تحتوي على فيروسات وبالتالي نحن كنقابة ندافع عن المزارعين لزراعة البذور الأصلية لكن البذور المراقبة دون غيرها وقد تم توزيع كمية من البذور المحلية الأصلية المراقبة على عدد من الفلاحين”.
منشور الخريجي كان ضربة قاضية للبذور المحلية
تخوفات مشروعة
لم تكتف “ضاد بوست” بشهادات الفلاحين والنقابات الفلاحية حيث توجهت إلى الجهات الرسمية محملة بتساؤلات واستفسارات عديدة في الملف، وكانت البداية مع البنك الوطني للجينات حيث كان لنا حوار مطول مع مدير عام البنك الوطني للجينات رمزي شعبان الذي أكد، أنّ دور المؤسسة (تأسست سنة 2007) المحافظة على موروثنا الجيني المهدد بالاندثار، خاصة منها الأصناف المتأقلمة مع مناخنا حيث يتم المحافظة على النباتات والحيوانات وحتى الكائنات الدقيقة التي تلعب دورا كبيرا في التوازن الطبيعي والايكولوجي.
وأوضح شعبان “أن الموارد الجينية المحسنة تساعد على الاكتفاء الذاتي لكن الموروث الجيني مهم جدا لكونه مخزون جيني متأقلم على مدى سنين مع طبيعتنا والتغييرات المناخية وبالحفاظ عليه في المستوى الطبيعي يواصل تأقلمه مع الطبيعية بخلاف الموروث المخزن رغم أهميته أيضا في حال تم إضاعة الموروث الجيني الموجود بالوسط الطبيعي”.
وأوضح مدير عام بنك الجينات أن “البداية تنطلق من الإطار القانوني، فلا وجود لإطار قانوني ينطبق على البذور والشتلات والأصناف القديمة ويضبط طرق إنتاجها وإكثارها والاتجار بها وحماية الحقوق المتعلقة بها، صحيح أن القانون الدولي يضمن ذلك لكن يجب أن يكون هناك إطار قانوني تونسي ينظم القطاع”.
دورنا المحافظة على موروثنا الجيني المهدد بالاندثاررمزي شعبان
وأضاف محدثنا أنّ “القانون عدد 42 لسنة 1999 (خاصة الباب الثالث منه)، المتعلق بالبذور والشتلات والمستنبطات النباتية المستعملة على الإنتاج النباتي ويضبط طرق إنتاجها وإكثارها وتوريدها وحماية الحقوق المتعلقة بها، هناك تبادل في البذور بين الفلاحين ومعمول به عالميا لكن ما هو متداول من البذور بين الفلاحين لا يمثل نسبة كبيرة من البذور المطابقة للمواصفات هناك ثغرة قانونية ونقص تشريعي يجعل الفلاح الذي يكثر البذور القديمة غير محمي”.
وواصل مدير البنك الوطني للجينات قائلا “بذورنا ذات قيمة غذائية عالية ولديها خاصية التأقلم مع المناخ وهي قادرة على أن تُزرع عدة مرات وتعطي نفس الخاصيات عكس عدد من البذور المحسنة، في الخضروات البذور التي نستوردها من الخارج هم من يقومون بالتهجين ويبيعون لنا الأصل الأول وعندما نزرعها في العام الموالي لا نحصل على نفس الخصائص”.
وأضاف شعبان أنّه “باعتماد البذور الأصلية يمكن المحافظة على جيناتها الثابتة مع تقنيات معينة في التعامل معها من طرف الفلاح، فيصبح غير مضطر لاقتناء المستورد الذي يستعمله هذا العام ويصبح مضطرا لاقتنائها العام الموالي، إضافة إلى أنه يتم اقتناؤها بالعملة الصعبة وتستهلك أكثر ماء وأسمدة ومبيدات حتى تكون قادرة على تقديم مردودية جيدة، لكن كل هذا يمكن أن يؤثر على التربة ويمكن أن يقضي على البكتيريات المهمة للأرض، أيضا المواد الكيميائية مثل الأملاح المعدنية الموضوعة بطريقة كيميائية تزيد ملوحة التربة وتلوث المائدة المائية، وهذا ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار وهنا تختلف البذور الأصلية والمستوردة من حيث الحزمة الفنية فالبذور الأصلية تتطلب حزمة فنية أقل من الأخرى”.
بذورنا ذات قيمة غذائية عالية ولديها خاصية التأقلم مع المناخ وهي قادرة على أن تُزرع عدة مراتبنك الجينات
وتابع محدثنا “البذور المحسنة خطيرة على الأمن الغذائي فالآباء المعتمدون في التحسين قليلون وعند وقوع آفات يمكن أن تقضي على الموروث الجيني، وهو ما وقع في فاكهة الإجاص بعد هجوم “اللفحة النارية” التي قضت تقريبا على الأصناف المحسنة والآن عدنا إلى الموروث الجيني ونبحث عن الموروث المتأقلم ومكافح لها”.
البذور المحسنة خطيرة على الأمن الغذائيرمزي شعبان
أما بخصوص تسجيل عدد من البذور الأصلية بالسجل الوطني، أكد شعبان أن “السجل الوطني من مشمولات وزارة الفلاحة والبنك على اتصال بوزارة البيئة للحث على إعداد إطار قانوني يهتم بالموروث الجيني وبذورنا الأصلية بالشراكة مع وزارة الفلاحة التي تملك طاقم فني من أحسن الأخصائيين مع المعهد الوطني للبحوث الزراعية لحماية حقوق المستنبطين على أن تكون هناك مواصفات معينة للتسجيل، موضحا أنّه “يجب أن يوجد تعاون مع الفلاحين والمجتمع المدني في هذا الخصوص لتقديم قائمة هوية للأصناف وللتأكد أنّه فعلا موروث جيني قديم أم وقع تحسينه مع تجربته في وسط بيئي علميا داخل مخابر جد متطورة”.
واعتبر مدير بنك الجينات، في حديثه لـ”ضاد بوست”، أنّ تخوف وزارة الفلاحة في ما يخص تبادل البذور بين الفلاحين في محله في ظل غياب إطار قانوني يضبط العملية ويمنع انتشار الأمراض، قائلا “لكن لا نستطيع في المقابل منع الفلاحة من إكثار البذور في ما بينهم للمحافظة على الموروث الجيني في وسطه الطبيعي لأن المحافظة على الموروث الجيني في بيوت التبريد غير كاف ومن أهم المشاريع التي يقوم بها بنك الجينات هو دعم المحافظة على موروثنا الجيني في وسطه الطبيعي وتعاملنا مع الفلاحين مباشرة ومع وزارة الفلاحة والتنسيق مع المندوبيات أيضا”.
معهد البحوث الزراعية يوضح
المعهد الوطني للبحوث الزراعية من أعرق معاهد البحوث وأقدمها حيث تحصل سنة 2017 على الجائزة الوطنية للبحث العلمي والتكنولوجيا كأحسن مؤسسة بحث لإشعاعه على المستوى الوطني والدولي ويعود إحداثه إلى سنة 1913 وانطلقت البحوث للتحسين الوراثي للحبوب في تونس منذ سنة 1893.
تطور إنتاج القمح الصلب والقمح اللين والشعير بتونس منذ سنة 1910 الى 2012
منذر بن سالم أستاذ تعليم عالي فلاحي ورئيس مدير عام المعهد الوطني للبحوث الزراعية بتونس أكّد لـ “ضاد بوست”، أنّه “طوال أكثر من قرن عمل المعهد على استنباط العديد من الأصناف في الحبوب سواء كانت قمح صلب وقمح لين وشعير بغاية تنمية قطاع الحبوب في تونس، ووقعت تطورات كبيرة على القمح والدليل أنّ الإنتاجية منذ سنة 1910 إلى سنة 2020 تضاعفت من 3 الى 4 مرات في القنطار”.
أصناف بذور مستنبطة في المعهد الوطني للبحوث الزراعية
وأوضح بن سالم أنّ “كل ما قيل عن عدم قدرتنا على إنتاج بذور مثبتة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي غير صحيح، لأن المعهد استنبط عديد الأصناف تميزت بخاصيتها الإنتاجية ومقاومتها للأمراض والجفاف وانطلقت من البذور الأصلية التونسية التي كانت مستعملة في أوائل القرن حيث أُدخل عليها الكثير من التحسينات في نطاق البرنامج الوطني للتحسين الوراثي للحبوب، إذ مكنت هذه البرامج والتحسينات من تطوير هذه الأصناف وجعلها متأقلمة أكثر مع المعطيات المناخية للبلاد وعقلية الفلاح التونسي وبالتالي وقعت نقلة نوعية لقطاع الزراعات الكبرى”.
واستدرك قائلا “صحيح أننا لسنا قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يبقى رهين عدة عوامل (ليست الأصناف وحدها المحددة)، وإنما أيضا الحزم الفنية لأنه علميا أثبت أن الصنف يساهم بين 15 إلى 20 بالمائة في الإنتاجية والباقي متأت من التعامل الفني مع الزراعة من حراثة وتداول زراعي وتسميد، سواء من الناحية الكمية أو النوعية، فمشكل تحقيق الاكتفاء الذاتي يمكن أن يراه البعض بالمساحات المزروعة لأنه مرتبط بالإنتاجية في الهكتار”.
وتابع مدير المعهد الوطني للبحوث الزراعية كلامه قائلا “خلال هذا القرن المعهد استنبط أكثر من 120 صنفا وفي السنوات الأخيرة هناك أصناف جديدة تتميز بإنتاجيتها ومقاومتها للأمراض الناتجة عن التغيرات المناخية، متأقلمة أكثر مع الجفاف ومعدلات الأمطار التي قلت على مرور السنوات وبالتالي برنامج التحسين الوراثي للمعهد يأخذ بعين الاعتبار كل هذه الإشكاليات والمعهد مساهم ومتدخل من جملة عدد من المتداخلين في القطاع”.
الحبوب في تونس أكثر من قرن من التحسين الوراثي
وأوضح أن “البحث العلمي هو القاطرة لكن المتداخلين من منتجي ومكثري البذور والفلاحين ومراكز البحث الدولية ووزارة الفلاحة كل هؤلاء لديهم جانب من المسؤولية في النهوض بالقطاع لتحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يعتبر أمرا ليس صعبا لكن يتطلب تكاثف الجهود والمعهد وإطاراته منفتحون على كل أشكال التعاون من القطاع العام أو الخاص على حد السواء”.
وواصل محدثنا كلامه قائلا ” في تونس ما نلاحظه غياب الدعم العلمي من الخواص عكس ما نجده في الخارج لأن هناك إقبال ودعم وتمويل للبحث العلمي من الخواص وهذا لا نراه ببلادنا، نحن نطمح إلى مزيد من الدعم من طرف وزارة الفلاحة من ناحية الموارد البشرية والمادية لأن البحث لا يتم على مستوى المخابر فقط بل يتم في الجهات وفي الضيعات الفلاحية وهذا يتطلب يد عاملة على عين المكان ومسائل لوجستية كالسيارات وغيرها”.
من جانبه، أكد محمد الخراط أستاذ تعليم عالي فلاحي ورئيس مخبر الزراعات الكبرى ومحسّن بقوليات، أن “العمل بدأ منذ أكثر من قرن على التحسين الوراثي للحبوب التي تعتبر قوت الشعب منذ سنوات خلت، وقد اهتم المستعمر بالتحسين الوراثي وتونس تعتبر من أقدم البرامج البحثية في العالم حيث تم تحسين عدة أصناف وتم مواصلة العمل على ذلك”.
وأضاف الخراط أنّ “البرنامج طور قرابة 130 صنف من القمح بما فيهم “المحمودي” و”الشيلي”، المدخل منذ 1953 إلى تونس عن طريق تاجر من مرسيليا وتبناه الفلاحون التونسيون في فترة كان فيها سكان تونس يتجاوز 3 مليون ساكن بقليل، في حين تضاعف العدد الآن ليصبح 12 مليون تونسي حيث نستهلك ونبذر”.
و”أثبتت الدراسات أن 20 بالمائة من الإنتاج يذهب إلى سلة المهملات وللأسف الاكتفاء الذاتي في الحبوب رهين عدة عوامل منها تحسين الإنتاجية وهذا اشتغلنا عليه منذ إنشاء المعهد وقد كانت الإنتاجية 4 مرات اقل من وقتنا الحاضر”، وفق الأستاذ الخراط.
وتابع “صحيح أن جودة الأصناف الجديدة أقل بقليل من حيث البروتينات بين 11 و12 أو 13 بالمائة على أقصى تقدير في حين أن الأصناف القديمة تصل إلى 15 بالمائة من نسبة البروتينات وهذا راجع إلى تطوير الإنتاج فهناك علاقة سلبية بين الإنتاج ونسبة البروتينات، وكل ما تطور الإنتاج تنقص نسبة البروتينات وهذا موجود في كل برامج العالم”.
وقال “نحن لم نتخلى عن استعمال الأصناف القديمة في التحسين الوراثي، صحيح أن الأصناف القديمة تتميز بتأقلمها مع طرق زراعية قديمة من ناحية الحصاد اليدوي والإنتاجية المستقرة التي لا تتجاوز 30 أو 40 قنطار في الهكتار في أقصى حالات أما الجديدة فتتميز بإنتاجية تصل إلى 80 قنطار في الهكتار في البعلي وهناك أكثر من هذا الرقم في السقوي”.
وأضاف “الرجوع إلى كل الأصناف القديمة في كل المناطق يجعلنا لا نقدر على تلبية حتى 20 بالمائة من حاجياتنا، في الوقت الحالي نلبي 50 أو 60 بالمائة من حاجياتنا ونصل إلى 70 بالمائة، بالأصناف القديمة لن نتمكن من بلوغ هذه النسب، وتحديدا في الفلاحة البيولوجية والمناطق المعرضة للجفاف الحاد، في جنوب سليانة وجنوب الكاف وجنوب سليانة، يمكن زراعتها وندعو الفلاحين إلى زراعتها لأن النتائج لن تكون كبيرة حتى لو تم اعتماد الأصناف المحسنة هناك”.
وختم محدثنا قائلا “كل عشرية نسجل 3 أو 4 أصناف وعملية الاستنباط تتطلب 10 سنوات على الأقل من العمل البحثي ثم يأتي دور معهد الإكثار الذي يتطلب 5 سنوات، ونعتمد في ذلك موارد جينية محلية وعالمية من كل الأصقاع”، موضحا أنّ “التركيبة الجينية للأصناف نجد فيها آباء متعددين تطورنا عن طريق “المحمودي” و”الشيلي” ثم أدخلنا آباء جدد “دم جديد” لأن الجينات هي موروث عالمي والغاية منه تحسين القدرة على الاستجابة لتوفير الغذاء للعالم”.
حذّرت الأمم المتحدة الثلاثاء بتاريخ 26 أفريل 2022، من أن البشرية عالقة في “دوامة تدمير ذاتي” وأنها تعاني من “تصور خاطئ للمخاطر” يفاقم الأنشطة والسلوكيات التي تسبب تغير المناخ وعدد متزايد من الكوارث في أنحاء العالم.
وفي ظل هذا التغيّر المناخي، من المتوقع أن تقع أحداث كارثية ناجمة عن الجفاف ودرجات الحرارة القصوى والفيضانات المدمرة بشكل متكرر أكثر في المستقبل، وفقا لما ذكرته وكالة “فرانس برس” وقدر تقرير مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث أنه بحلول عام 2030 ستحدث 560 كارثة حول العالم سنويا، أي بمعدل 1.5 كارثة يوميا.
هذه المعطيات تجعل بلادنا ككل دول العالم وطبعا بشكل متفاوت أمام تحدي كبير للمحافظة على الأمن الغذائي وإيجاد حلول عملية ناجعة لعل من أوكدها مراجعة التشريعات والقوانين حتى تتلاءم مع المتغيرات الجديدة ومع القوانين والمواثيق الدولية في المجال الفلاحي وغيرها من المجالات إضافة إلى تقديم امتيازات للفلاحين والإصغاء أكثر لاحتياجاتهم ودعم البحث العلمي والتكنولوجي أكثر فأكثر ومتابعة البرامج المتطورة حفاظا على الحق في العيش الكريم للمواطنين وعلى السيادة الوطنية.