ملفات

مليون تلميذ انقطعوا عن الدراسة في 10 سنوات … الوزارة عاجزة والحلول غائبة

انطلقت الأربعاء 15 سبتمبر 2021 السنة الدراسية الجديدة ليلتحق أكثر من 2 مليون و500 ألف تلميذ وفاعل تربوي بـ 6130 مؤسسة تربوية، ويبلغ عدد الملتحقين بالمؤسسات التربوية للموسم الدراسي 2021-2022 بالنسبة إلى التلاميذ من مختلف الأصناف 2 مليون و314 ألفا و343 تلميذا (52,5 بالمائة منهم من الإناث)، في حين يناهز عدد الفاعلين التربوية (مدرسين واطارات تربوية وعملة) نحو 230 ألف، وفق احصائيات وزارة التربية.

وارتفع عدد التلاميذ المسجلين بالمؤسسات التربوية هذا الموسم مقارنة بالموسم الدراسي الماضي 2020-2021 بنحو 65 ألف تلميذ، وهي قطعا عودة استثنائية بكل المقاييس خصوصا في ظل تنامي المخاوف من إمكانية تسجيل موجات جديدة من فيروس كورونا وبطىء عمليات التلقيح التي تستهدف التلاميذ.

وفي الحقيقة ليس الوباء وحده الذي يهدد السنة الدراسية، بل إن المنظومة التربوية برمتها تشهد انهيارا لافتا سنة تلو الأخرى في ظل تأخر الإصلاحات المطلوبة وبقائها في رفوف مكاتب الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية.

280 تلميذًا
يغادرون مقاعد الدراسة في اليوم الواحد

ويقول وزير التربية والتعليم، فتحي السلاوتي، إن العودة المدرسية ستكون في موعدها المحدد وأنها لن تكون بنظام الأفواج باعتبار أن عملية تقييم تلك التجربة أثبتت ضررها بالنسبة إلى المتمدرسين باعتبار تلقي نصف البرنامج فقط، وجاءت هذه القرارات بعد لقاءات مكثفة جمعت المسؤولين في الوزارة وممثلين عن نقابات التعليم المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل.

المقالات المتصلة
إحصائيات السنة الدراسية 2021/2022

وتقريبا تم التطرق إلى كل العراقيل والنقائص التي تهدد المنظومة التربوية والسنة الدراسية الجديدة، دون البحث في نتائج وأسباب ارتفاع ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة التي تهدد آلاف التلاميذ في تونس في مختلف ولايات الجمهورية.

وتشير الأرقام الرسمية إلى أن وزارة التربية سجلت غياب أكثر من 100 ألف تلميذ عن مقاعد الدراسة خلال العام 2018، وهو ما يعني أن عدد التلاميذ المنقطعين عن التعليم يناهز 280 تلميذا في اليوم الواحد.

بينما أعلن وزير التربية فتحي السلاوتي في فيفري 2021 أن نحو 50 ألف تلميذ انقطعوا عن الدراسة خلال العام الدراسي الجاري، مشيرا في ذات السياق إلى أنّ مؤشرات الانقطاع المبكر عن الدراسة بالنسبة للتلاميذ خطيرة وأن النسب في ارتفاع متواصل والوضع مخيف، وفق تعبيره.

المغادرة نحو المجهول

غادرت شيماء (18 عامًا) مدرستها التي تقع في منطقة ريفية نائية تتبع إداريا معتمدية الروحية من ولاية سليانة عندما كانت تبلغ من العمر 10 سنوات، وبقيت لمدة 4 سنوات تساعد والديها في الأعمال الفلاحية قبل أن تغادر منطقها بحثا عن عمل يضمن لها العيش الكريم.

وشيماء هي طفلة تونسية وواحدة من آلاف التلاميذ الذين غادروا مقاعد الدراسة في سنّ مبكرة نحو المجهول، حيث تقول متحدثة عن تجربتها “منذ نعومة أظافري حلمت فقط بمغادرة المدرسة وبعد أن غادرتها أحسست أن حياتي انتهت”.

تضيف شيماء في حديث لـ ‘ضاد بوست’ “عندما غادرت مدرستي كنت طفلة صغيرة لم أكن أعرف قيمة التعليم والمعرفة لكن اليوم أتمنى لو أنني أعود إلى مقاعد الدراسة حتى لأيام معدودات… أشتاق إلى الكراس والقلم ورائحة الكتب”.

عندما بلغت سن الرابعة عشرة قام والد شيماء بإرسالها إلى العاصمة للعمل كمعينة منزلية لدى عائلة ثرية، وفي سن السادسة عشرة التحقت بأخواتها في ولاية المنستير وهي تعمل إلى الآن بإحدى معامل الخياطة مقابل 400 دينارًا.

تطور نسب التدرج في التعليم الابتدائي بين 2010 و2019

هنا تقول محدثتنا ملخصة تجربتها مع مغادرة المدرسة باكرا إعتقدت أن المدرسة هي الجحيم لكنني اليوم تيقنت أنها جنة على الأرض لكن للأسف كانت أمي غير متعلمة ولم تقم بتوجيهي إلى الطريق الصحيح… أنصح كل الأطفال والتلاميذ بالتشبث بالتعليم والعلم فهو الوسيلة الوحيدة للنجاة من براثن الفقر والجهل والاستغلال الاقتصادي”.

فشل المنظومة التربوية

يعترف وزير التربية السابق، ناجي جلول في حديثه لـ “ضاد بوست”، بفشل المنظومة التربوية في تونس برمتها، مشيرا إلى وجود مشكل كبير في التربية إلى جانب نقص التكوين في صفوف إطار التدريس.

يضيف جلول حديثه قائلا: “في تقييم “بيزا” الأخير للأنظمة التربوية احتلت تونس المرتبة 63 من مجموع 65 دولة، وهذا أكبر دليل على ضعف المنظومة التربوية وتراجع قيمة المدرسة التي تخلت عن دورها التربوي والتعليمي”.

يتابع جلول مفسرا “لا يمكننا خلق مجتمع راقي دون التركيز على التربية التعليم، ولا يمكننا التصدي لوقف نزيف الانقطاع المدرسي دون إعادة بناء المنظومة التربوية لأن الإصلاح لن ينجح دون إعادة البناء”.

المنظومة التربوية فاشلة برمتها

ناجي جلول

الأسباب عديدة والحلول غائبة

في المقابل، يكشف وزير التربية السابق عن الأسباب التي أدت إلى ارتفاع نسب التلاميذ المغادرين للمدارس ليقول “الأسباب عديدة منها عدم تلقي التلاميذ الذين ينتقلون من مرحلة دراسية إلى أخرى للدعم النفسي باعتبار أن فترة الانتقال مثلا من الابتدائي إلى الإعدادي تكون صعبة وقاسية على نفسية التلميذ”.

يواصل حديثه “أعلى نسبة انقطاع مدرسي يقع تسجيلها في المناطق الداخلية وولايات الشمال الغربي مثل القصرين وسيدي بوزيد والقيروان وسليانة وهذه المناطق تتميز مدارسها عادة بتردي البنية التحتية، حيث أن 50 في المائة من التلاميذ الذين غادروا المدرسة لم يدخلوا القسم التحضيري وأولياؤهم ذوو مستوى تعليمي ضعيف، في حين تغادر نسبة كبيرة من الفتيات مقاعد الدراسة بسبب غياب المراحيض في المدارس”.

أسباب الانقطاع المدرسي عديدة

ناجي جلول

يضيف جلول قائلا: “الانقطاع المبكر عن الدراسة ليس حكرا على تونس ففي ألمانيا مثلا بلغت نسبة المنقطعين حوالي 12 بالمائة وبلغت في ألمانيا حوالي 12.5 بالمائة واسبانيا حوالي 20 بالمائة لكن هذه الدول وجدت البديل للتلاميذ المنقطعين عن الدراسة من خلال توجيههم نحو التكوين المهني”.

وزير التربية السابق ناجي جلول

يستدرك جلول حديثه ليقول: ” لكن في الحقيقة لا توجد أي محاولة جدية لإصلاح المنظومة التربوية في تونس وكل من يحاول الإصلاح يتصدون له بكل الطرق، والحل الوحيد هو في إيجاد البديل أي كل من يقرر مغادرة مقاعد الدراسة يقع توجيهه مباشرة إلى مراكز التكوين المهني ويقع تكوينه وإعادة إدماجه في المجتمع كي لا تكون وجهته إلى الانحراف أو العمل في التهريب”.  

يختتم جلول حديثه قائلا: “الحل أيضا هو في مدرسة “الفرصة الثانية” وبعث التلاميذ في مسارات التكوين الفني والرياضة، وأيضا يجب إعادة مكانة المدرسة وإعادة مكانة الأستاذ والمعلم لإصلاح التعليم وإصلاح المجتمع التونسي”.

ويُجمع كثيرون على أن قطاع التربية والتعليم يعيش أسوأ فتراته خصوصا في ظل أزمة تسيير الدروس التي عاشت على وقعها المؤسسات التربوية في تونس بسبب أزمة فيروس كورونا إلى جانب الأزمات المتتالية التي عرفها القطاع منذ الثورة والمتمثلة في الصراع بين وزراء التربية المتعاقبين على الوزارة ونقابات التعليم الثانوي.

تطور نسب التدرج في التعليم الثانوي بين 2010 و2019

ومن الصراع المتواصل إلى الانقطاع المتكرر لسير الدروس فحجب الأعداد في أكثر من مناسبة إلى تأثر الدروس بسبب الفيروس، هي أحداث أثرت بشكل كبير على نفسية التلاميذ ودفعت أغلبهم إلى مغادرة مقاعد الدراسة ليُنسف بذلك مبدأ ‘إجبارية التعليم’ الذي ينص عليه دستور الجمهورية الثانية.

إجبارية التعليم … حبر على ورق

وينص الفصل 39 من الدستور التونسي على “أن التعليم إلزامي إلى سن السادسة عشرة، وأن الدولة تضمن الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين”.

ويرى مراقبون أن الدولة التونسية لم تلتزم بتطبيق هذا الفصل وأنه ظل حبرا على   ورق خصوصا في العشرية الأخيرة، حيث أنه في الفترة الممتدة بين سنة 2010 وإلى غاية سنة 2020، انقطع عن الدراسة أكثر من مليون تلميذ أي بمعدل 100 ألف تلميذ سنويا.

وهذه الأرقام يؤكدها منير حسين، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حيث يقول في حديثه لـ “ضاد بوست” “إن نسبة الانقطاع المدرسي على مدى عقدين ظلت ثابتة في مستوى الـ 100 ألف منقطع عن الدراسة بشكل سنوي”.

يضيف منير حسين “في سنة 2013 مثلا تم تسجيل انقطاع حوالي 120 ألف تلميذ عن الدراسة بينما غادر حوالي 103 آلاف تلميذ المدرسة سنة 2019، في حين بلغت نسبة المنقطعين عن التعليم سنة 2020 حوالي 105آلاف، وهو ما يعني أن وتيرة الانقطاع عن التمدرس لم تنخفض عن الـ 100 ألف وأن النسبة الجملية للمنقطين تتراوح بين 5 إلى 6 في المائة من إجمالي التلاميذ المسجلين في وزارة التربية.

تطور الانقطاع المدرسي في تونس

ورغم إجبارية التعليم في تونس حتى سن الـ 16، إلا أن عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، كشف أن أكثر من 10 آلاف تلميذ ينقطعون سنويا في التعليم الابتدائي أي بنسبة 1 في المائة من نسبة المنقطعين عن الدراسة وأن أعلى نسبة انقطاع سجلت في مستوى السنة الخامسة والسادسة ابتدائي.

وحسب منير حسين ، فإن نسبة التمدرس حسب الشريحة العمرية بلغت سنة 2020 حوالي 84 في المائة بالنسبة للشريحة العمرية من 6 سنوات إلى 16 سنة، في حين بلغت نسبة التمدرس بالنسبة لمن هم في سن الستّ سنوات حوالي 99 في المائة وهو ما يعني أنه مع التقدم في المستوى الدراسي فإن نسبة التمدرس تشهد تراجعا.

الانقطاع المدرسي حسب المراحل التعليمية

صدمة الانتقال

في المقابل، يتصدر تلاميذ السنة سابعة أساسي نسبة المنقطعين عن الدراسة بنسبة بلغت 47 في المائة أي حوالي 12 في المائة من التلاميذ المسجلين في الإعدادي، في حين تم تسجيل أعلى نسبة انقطاع بالنسبة لتلاميذ التعليم الثانوي في صفوف التلاميذ المرسمين بأقسام السنة أولى ثانوي بنسبة بلغت 12.5 في المائة ، وهنا يفسر محدثنا أسباب تسجيل النسب الأعلى في الانقطاع المدرسي في السنوات الأولى للمراحل التعليمية بأن “انتقال التلميذ من مرحلة إلى أخرى يسبب له صدمة نفسية ويشعر بأنه دخل عالم مختلف وجديد فيضطر لمغادرة مقاعد الدراسة”.

نسبة التمدرس حسب الشريحة العمرية (سنة 2020)

العلاقة بين الفقر والانقطاع!

في ذات السياق، يشير محدثنا إلى أن حوالي 90 في المائة من المنقطعين عن الدراسة ينتمون لعائلات فقيرة وهشة مشيرا ‘إلى أن العلاقة بين الفقر والانقطاع عن التعليم قوية جدا”، وفق تعبيره.

ويفسر منير حسين أسباب ارتفاع نسب الانقطاع المدرسي ليؤكد أن “السبب الأول هو التحول في المنظومة التربوية منذ سنة 2002 والتي كانت تقوم مدرسة المواطنة ودَمَقرطة التعليم، لكن هذه المنظومة لم تنجح في أهدافها وضربت مبدأ تكافئ الفرص”.

منير حسين عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

يضيف متحدثا “هنا عندما نتحدث عن غياب مبدأ تكافئ الفرص فإنه يسعنا الإشارة إلى أن المدارس الريفية مثلا  تعاني من بنية تحتية متردية إضافة إلى غياب الماء الصالح للشراب في أكثر من 500 مدرسة، إلى جانب تخلي الدولة عن الصيانة والتكوين داخل المؤسسات التربوية في الوقت الذي تشهد فيه ميزانية وزارة التربية تراجعا سنة تلوى الأخرى”.

لهذا السبب تشهد الفضاءات المدرسية تدهورا ملحوظا من سنة إلى أخرى ومع السياسات الخاطئة تحول الفضاء المدرسي إلى فضاء إقصائي يسوده العنف ولجوء التلاميذ إلى السوق الموازية (الدروس الخصوصية) لتحصيل بعض المعارف والحصول على عدد جيد لتحقيق النجاح، يقول محدثنا.

سلعنة التعليم

مما لا شك فيه فإن ‘سلعنة التعليم’ أو تحويل التربية والتعليم في بلادنا إلى ‘سلعة’ تقدم بمقابل مادي وتباع وتشترى من خلال تركيز الإطار التربوي على تقديم ‘الدروس الخصوصية’ كان له تأثيره السلبي على واقع التعليم في تونس.

فاليوم باتت الدروس الخصوصية الشغل الشاغل للأولياء والتلاميذ على حدّ سواء وبات الأساتذة يركزون على تقديم الدروس في ساعات الدروس الخصوصية وتجاهل تقديمها في ساعات الدرس المحددة داخل المعهد.

تلاميذ متجمعون في ساحة المدرسة

ففي مواصلة حديثه لـ ‘ضاد بوست’، انتقد منير حسين، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المساعي الرامية لسلعنة التعليم ليقول: “اليوم المقاربة البيداغوجية أصبحت تتطلب ما يعرف بـ “السند المدرسي” أي مرافقة التلميذ بالدروس الخصوصية ودعمه عبر تسخير مربين يلقنونه المعارف، أما إذا كان التلميذ ينتمي إلى أسرة فقيرة فإنه لا يجد السند المدرسي ويكون مصيره مغادرة مقاعد الدراسة”.

 يضيف “المدرسة في تونس انخرطت في المنوال التنموي الذي يقوم على منظومة اقتصادية والذي أدى إلى سلعنة التعليم الذي أصبح بمثابة بضاعة تعرض في السوق والدولة توجهت أساسا لخوصصة التعليم “.

يختتم محدثنا حديثه قائلا: “نحن كمجتمع وكدولة ندفع التلميذ للانقطاع عن التعليم من خلال العوائق التعليمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية التي نخلقها في مسيرته، إلى جانب عدم ضمان حق التشغيل لخريجي التعليم التعليم العالي”.

دور المربي

يقول عبد السلام حمروني، أستاذ تعليم ثانوي، في حديثه لـ “ضاد بوست”، إن “ظاهرة الانقطاع عن التعليم تعود لعدة أسباب منها الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع مصاريف التعليم، مشيرا إلى أن الظروف الاقتصادية تختلف من جهة إلى جهة حيث أن تلاميذ المناطق الساحلية مثلا يجدون السند المدرسي منذ البداية في حين لا يجد أبناء المناطق الريفية هذا السند”.

أبناء المناطق الريفية لا يجدون السند المدرسي الكافي

عبد السلام الحمروني

يضيف الأستاذ عبد السلام الحمروني متحدثا عن أسباب مغادرة التلاميذ لمقاعد الدراسة ليقول “الانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى أيضا يجعل التلميذ يجد صعوبة في التأقلم ويصطدم بعدة تغيرات وصعوبات تجعله يهرب من مقاعد الدراسة إذا لم يجد السند العائلي والتربوي والنفسي”.

 وحول دور الأستاذ في تأطير التلاميذ ومساعدتهم على فهم التغيرات يقول الحمروني “يتفهم الإطار التربوي الظروف الاجتماعية وصعوبة التعليم ويمكنه تأطير التلميذ ومساعدته على تجاوز صدمة الانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى”.

يضيف ” يمكن أن يبلغ الأستاذ الإدارة عن انقطاع إحدى تلاميذه ويقع متابعة حالته وحالة عائلته ومن ثمة محاولة إعادته إلى مقاعد الدراسة… طبعا الأستاذ هنا يقوم بمجهوده كي لا يخسر التلميذ مستقبله”.

أما بخصوص مدرسة “الفرصة الثانية”، يرى محدثنا أنها “لن تنجح في مساعدة آلاف التلاميذ من العودة إلى مقاعد الدراسة إلى جانب نتائجها الضعيفة، مشيرا إلى أن الحل يكمن في ضرورة إيجاد بدائل للمنقطعين عن التعليم والتركيز على التكوين المهني”.

يمكن للأستاذ مساعدة التلميذ المنقطع للعودة للدارسة

عبد السلام الحمروني

مدرسة “الفرصة الثانية”

وتعرف وزارة التربية عبر موقعها الرسمي مدرسة “الفرصة الثانية” بأنها “تتولى مهام الاستقبال والتوجيه والتأهيل والمرافقة والإحاطة بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 18 سنة والذين انقطعوا عن الدراسة دون الحصول على شهادة مدرسية تختم مرحلة تعليمية أو مؤهل تكوين مهني وذلك قصد تمكينهم من مواصلة الدراسة بالمؤسسات التربوية التابعة لوزارة التربية أو الالتحاق بمنظومة التكوين المهني أو الإعداد للاندماج بسوق الشغل والحياة النشيطة “.

وافتتح باب التسجيل في مدرسة الفرصة الثانية نهاية شهر مارس الماضي بالنسبة للمنقطعين عن الدراسة القاطنين بولايات إقليم تونس الكبرى (تونس، أريانة، بن عروس، منوبة)، وهو ما يعني أن هذه المدرسة لم تحترم مبدأ تكافئ الفرص بين جميع التلاميذ الذين غادروا مقاعد الدراسة والذين يتوزعون على كامل تراب الجمهورية وينحدرون خصوصا من الولايات الداخلية وولايات الشمال الغربي عكس مبادرة ‘المدرسة تستعيد أبنائها التي شملت جميع ولايات تونس”.

لكن وزير التربية، فتحي السلاوتي أشار في تصريحات سابقة أن الوزارة تطمح إلى تعميم مدرسة الفرصة الثانية من أجل احتضان عشرات الآلاف من المنقطعين سنويا عن الدراسة، لتمكينهم إما من مواصلة الدراسة أو الالتحاق بمنظومة التدريب المهني وإعدادهم للاندماج بسوق الشغل والحياة النشيطة، حسب قوله.

وأكد السلاوتي أن “الوزارة تسعى إلى إيجاد التمويلات الضرورية من أجل إنجاز هذه المؤسسة التربوية في كل الولايات، حتى تتمكن من استيعاب أكبر عدد من المنقطعين سنويا عن الدراسة”.

‘انطلق أحنا معاك’ هو شعار مدرسة الفرصة الثانية

وتتكون مدرسة الفرصة الثانية من فضاءين وهما: ‘فضاء معاك’ ويتولى فيه 20 مختصا نفسيا واجتماعيا ومؤطرون عملية استقبال التلاميذ والاستماع إليهم وتحديد حاجياتهم التعليمية أو التكوينية أو المهنية ثم توجيههم إما للتكوين المهني وإما للاندماج في سوق الشغل، بالنسبة للبالغين 18 سنة، أو توجيههم لاستئناف الدراسة”.

ويكون استئناف الدراسة بالفضاء الثاني وهو ‘فضاء انطلق’ والذي يتكون من 10 أقسام وبطاقة استيعاب تبلغ 25 تلميذا بكل قسم، ويتلقى التلاميذ تكوينا تعليميا لمدة 9 أشهر في مجالات متعددة مثلا الرياضيات واللغات.

وهنا تجدر الإشارة، أن “ضاد بوست” حاولت الاتصال بمسؤولين من وزارة التربية للحديث عن ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة وعن مدرسة الفرصة الثانية لكن جوبهت كل محاولاتنا بالمماطلة ولم نجد من يجيبنا عن تساؤلاتنا.

ظاهرة قديمة لكنها في ارتفاع

ورغم تجاهل المسؤولين في وزارة التربية  وفشل الوزراء المتعاقبين على الوزارة في إيجاد حلول لهذه الظاهرة، إلا أن منظمات المجتمع المدني في تونس تولي اهتماما كبيرا بظاهرة الانقطاع المدرسي باعتبارها ظاهرة خطيرة تهدد عشرات الآلاف من الأطفال وتشكل خطرا على المجتمع.

وهنا تؤكد روضة السمراني، رئيسة جمعية “دار تونس”، أن الانقطاع المبكر عن الدراسة ليست بظاهرة جديدة عن المجتمع التونسي، لكن المخيف أن هذه الظاهرة تشهد ارتفاعا سنة تلو الأخرى وهو ما يعني أنها أصبحت تشكل خطرا على المجتمع”.

وحسب الأرقام التي كشفت عنها السمراني لـ “ضاد بوست” “فإنه بالعودة إلى سنة 1995 تم تسجيل انقطاع 6.2 في المائة في المرحلة الإعدادية في حين تم سنة 2013 تسجيل انقطاع   10.5 في المائة من التلاميذ، وهنا تعلق محدثتنا قائلة: “كان من المفروض أن نسجل تراجعا في عدد المنقطعين عن التعليم بسبب التقدم التطور الذي عرفته بلادنا”.   

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانوية فقد تم سنة 1995 تسجيل انقطاع حوالي 8.7 في المائة عن الدارسة في حين ارتفعت نسبة المنقطعين عن الدراسة سنة 2013 لتصل إلى 11.6 في المائة.

تضيف محدثتنا أنّ “60 في المائة من الأطفال الجانحين عن التعليم منقطعون عن الدراسة و20 في المائة من المنقطعين موزعون على ولايات سيدي بوزيد، القيروان، جندوبة والقصرين”.

الانقطاع المدرسي وجود منذ التسعينات

روضة السمراني

على صعيد متصل، أكدت محدثتنا أن بادرة المدرسة تستعيد أبناءها تمكنت من إعادة 15 ألف تلميذ إلى مقاعد الدراسة وتم تمتيعهم بالإحاطة النفسية والاجتماعية، مؤكدة على ضرورة تظافر الجهود لإنقاذ آلاف الأطفال من الضياع.

 وتعتبر روضة سمراني “أن الأطفال الذين يغادرون مقاعد الدراسة مبكرا يكونون عرضة للانحراف والاستغلال الاقتصادي والجنسي، مشيرة إلى أن وزارة التربية ووزارة المرأة والطفولة والمسنين مطالبة بحماية هذه الفئات”.

وتحذر سمراني من الاستغلال الاقتصادي للأطفال المنقطعين عن الدراسة مشيرة “إلى لجوء بعض العائلات إلى إرسال بناتهن القصر إلى العمل كمعينات في منازل الأغنياء في العاصمة وفي المدن الساحلية وهو ما يجعلهن عرضة للانتهاكات والاستغلال الجنسي والجسدي”.

الأطفال الذين يغادرون مدارسهم يكونون عرضة للاستغلال الاقتصادي والجنسي

روضة السمراني

اندمجت في سوق الشغل

قبل سنتين، قرر غيث (17 سنة) الانقطاع عن الدراسة بعد مروره بنجاح من الإعدادي إلى الثانوي، ولم تُثنه توسلات عائلته على التنقل إلى العاصمة تونس للبحث عن عمل رغم صغر سنه.

تطور نسب التدرج في الإعدادي العام بين 2010 و2019

يقول غيث لـ “ضاد بوست”، نجحت من المرحلة الإعدادية إلى الثانوي وكنت حينها مضطرا للدراسة والإقامة في مبيت المعهد، أحسست وكأنني في كوكب جديد عني لم أتمكن من التأقلم وبعد أربعة أشهر أخبرت عائلتي بأنني سأنقطع عن الدراسة”.

يضيف “لا زلت إلى اليوم أتذكر توسلات والدتي ومحاولات والدي كي أتراجع عن قراري لكنني لم أبال بهما ومضيت في تطبيق ما قررت… كنت أنام في مبيت المعهد وكانت المعاملة سيئة ولم أكن أملك مالا كاف لشراء حاجياتي فقررت مغادرة المعهد والبحث عن عمل”.

أنا اليوم أعمل في تونس في محل لبيع الفواكه الجافة وأساعد والداي على مصاريف إخوتي… لكن ربما لو يعود بي الزمن إلى الوراء لن أغادر معهدي وسأكمل دراستي بالتأكيد لكن أحيانا تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.

رأي علم الاجتماع!

يرصد أحمد الأبيض الأستاذ المختص في علم الاجتماع، ظاهرة الانقطاع المدرسي ليقول في حديثه لـ ‘ضاد بوست’ “الأرقام الرسمية تؤكد أن حوالي 100 ألف تلميذ تسربوا من المدرسة سنويا أي في عشر سنوات عنا مليون طفل غادروا مقاعد المدرسة، متسائلا “ما هو مصيرهم وإلى أين يذهبون؟

يجيب الدكتور أحمد الأبيض “حتما سيكون مصيرهم الشارع والمقاهي وأعمال الانحراف وكل أشكال التيه والضياع، وهنا يمكننا الإشارة إلى أن الظاهرة خطيرة وكبيرة”.

يواصل الدكتور الأبيض حديثه مفسرا دور المجتمع والأسرة ليقول “نسبة كبيرة من الآباء والأمهات أصبحوا يعملون كامل أيام الأسبوع ويعودون إلى البيت آخر النهار يعانون من التعب والإرهاق وبالتالي تخلى الأولياء عن دورهم التربوي والرقابي”.

مصير المنقطعين التيه والضياع

أحمد الأبيض

‘هنا يلجأ الآباء إلى دفع الأموال مقابل الدروس الخصوصية على أمل أن يقوم الأستاذ أو المعلم بدورهما، وهنا الثابت هو تخلي الأسرة عن جانب أساسي فيها وهو الإحاطة النفسية والعاطفية والتشجيع عن الدراسة والمراقبة “، حسب قوله.

ويتابع الأبيض “لقد تخلى الآباء والأمهات عن دورهم في الاهتمام بأطفالهم ومراقبتهم إلى جانب إدمان التلاميذ عن الهواتف الذكية والإدمان على الدردشات عبر الأنترنت، فمع مرور الزمن لم يعد هناك اهتمام برفع المستوى المعرفي”.

وهنا يرى محدثنا أن “المعرفة في بلادنا اليوم في حاجة إلى رد الاعتبار إليها وأنه لنا كدولة عربية أن نكون شركاء في إنتاج المعرفة والتطور التكنولوجي والاختراعات العلمية”. 

يضيف “يجب على وزارة التربية أن تستعيد دور التربية وأن لا تكتفي بالتعليم وأن تغرس في عقول الأطفال الجانب التربوي مع الحرص على تواصل الومضات لإعطاء نماذج للعلماء والمؤثرين وبأنه بوسعنا أن نكون شركاء في نماذج المعرفة مع الحرص على أن يشارك الإعلام في نشر هذه القيم” .

“وأيضا على الآباء والأمهات أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه أولادهم لأن الأطفال لا يحتاجون فقط إلى الأموال بل يحتاجون إلى المحبة والرعاية والإحاطة النفسية، وبهذا يمكنهم تجاوز كل العراقيل وشق طريق العلم والتعليم”، يختتم الدكتور أحمد الأبيض حديثه.

الآباء تخلوا عن دورهم في الاهتمام بأطفالهم

أحمد الأبيض

عموما تبقى ظاهرة الانقطاع المدرسي من أخطر الظواهر التي تهدد مستقبل أطفالنا والتي وجب التصدي لها من خلال إيجاد حلول جذرية وفعلية والابتعاد عن الحلول الترقيعية التي لم تعطِ أية نتيجة تذكر.

ويجب الإشارة أنه لا يمكن لوزارة التربية أن تحقق إصلاحات جذرية وحقيقية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين كل مدارس تراب الجمهورية مادامت 95 في المائة من ميزانيتها تذهب إلى كتلة الأجور حيث تضم الوزارة 208.402 ألف عون بميزانية بلغت 6.782 مليار دينار (منها 6.013 مليار دينار للأجور).

لكن في النهاية يسعنا الإشارة أيضا إلى أن ظاهرة الانقطاع عن التعليم ظاهرة عالمية، فقد كشف تقرير صادر عن منظمة اليونسكو لسنة 2018، أن عدد من انقطع عن الدراسة حول العالم بلغ إلى حوالي 258 مليونًا من الأطفال والشباب، منهم 59 مليونًا من الأطفال انقطعوا في المرحلة الابتدائية.

زينة البكري

صحفية متخرجة من معهد الصحافة وعلوم الإخبار، عملت في عدة مواقع محلية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى