كورونا… فيروس هزّ منظومة التعليم في تونس
تخوض تونس منذ سنة حربًا ضروسًا ضدّ عدوّ مجهول ملأ الدنيا وشغل الناس، هذا العدّو الذي أخلّ بتوازن كلّ المرافق الحيويّة في الدولة وأعاد رسم أولوياتها، ولمّا لم تكن المدرسة التونسية بمنأى عن هذه الجائحة فقد طالتها، هي كذلك، تبعاتُها الثقيلة وتفشّت فيها حالات العدوى فقد بلغ عدد الإصابات في الوسط المدرسي، 9783 حالة منذ العودة المدرسية في 15 سبتمبر 2020 إلى غاية 15 أفريل 2021، حسب أرقام رسمية أوردتها وزارة التربية بتاريخ 16 أفريل 2021.
وارتفع عدد الإصابات بكوفيد-19 في صفوف التلاميذ إلى 4141 إصابة وكذلك ارتفع عدد الإصابات في صفوف المدرسين إلى 4472 إصابة منذ العودة المدرسية.
وبلغت الإصابات في صفوف إطار الإشراف الإداري والبيداغوجي والإداريين والقيمين العامين والقيمين المرشدين التطبيقيين 875 إصابة منذ العودة المدرسية إلى غاية 16 أفريل 2021 و295 إصابة خلال ذات الفترة في صفوف العملة.
فكان على وزارة التربية والتعليم أن تتجنّد بكافة أسلحتها للدفاع عن سلامة منظوريها والخروج بهم من هذه الحرب بأقل الخسائر.
إجراءات غير مسبوقة…
أعلنت وزارة التربية منذ بداية ظهور الجائحة مستهل عام 2020 انخراطها في الخطة الوطنيّة للتوقي من فيروس كورونا والتزامها بجميع التدابير التي تم اتخاذها في هذا الصدد، ومع انشغال الرأي العام وانتشار حالة من الهلع في صفوف التونسيين قرّرت الوزارة إيقاف الدروس بكافة المدارس الابتدائيّة والإعدادية والمعاهد العموميّة والخاصة وتقديم عطلة الربيع بداية من يوم 12 مارس 2020.
وبفرض الحجر الصحي العام في 22 مارس 2020 تواصل إغلاق أكثر من 6 آلاف مؤسسة تربوية ليجد ما يفوق الـ 2 مليون تلميذ أنفسهم مُجبرين على ملازمة المنزل، ممّا دفع الوزارة حينها إلى تأمين دروس افتراضيّة على محامل مختلفة لربط الصلة بين المتعلم والعملية التعليميّة.
تسببت جائحة كورونا في أسوأ أزمة يمر بها التعليم والتعلّم خلال قرن من الزمنالبنك الدولي
حيث نشرت جملة من الوثائق تتعلق ببرامج الثلاثي الثالث على المنصّات الرقمية التابعة لها وأنتجت مجموعة من الدروس التلفزيّة تطوّع لتأمينها عدد من المدرسين لفائدة السنوات النهائيّة المعنيّة باجتياز الاختبارات الوطنيّة.
ومع التمديد في فترة الحجر الصحي أعلن وزير التربية حينها محمد الحامدي بتاريخ 14 أفريل 2020 عن إطلاق مشروع “القناة الوطنيّة التربويّة ” بالشراكة مع مؤسسة التلفزة التونسيّة والتي ستتخصص في تقديم دروس موجهة للناشئة ودعم مكتسبات التلاميذ.
وفي 29 أفريل 2020 أعلنت الوزارة في ندوة صحفيّة عن إنهاء السنة الدراسيّة بالنسبة إلى كلّ المستويات واستكمال البرنامج الدراسي بالنسبة لتلاميذ الباكالوريا، وذلك بالتزامن مع إعلان الحكومة رفع الحجر الصحي العام وبداية العمل بالحجر الصحي الموجّه انطلاقا من 4 ماي 2020.
ومع تسجيل نتائج إيجابيّة نسبيّا في علاقة بانخفاض حالات العدوى في البلاد، استأنف تلاميذ البكالوريا الدراسة لاستكمال برنامج الثلاثي الثالث بعد انقطاع دام أكثر من شهرين خلال الفترة الممتدة بين 28 ماي و23 جوان 2020 مع اعتماد نظام الفرق والحصة الواحدة والتشديد على الالتزام بتطبيق الإجراءات الوقائيّة ( قيس الحرارة، ارتداء الكمامة، التباعد الجسدي..)
وقد عملت وزارة التربية على تأمين اجتياز المناظرات والامتحانات الوطنيّة (مناظرة الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية “السيزيام” وامتحان شهادة ختم التعليم الأساسي العام والتقني وامتحان البكالوريا) في الفترة الممتدّة بين 29 جوان و30 جويلية وذلك حرصا على مصداقيّة هذه المحطات الفارقة في مستقبل التلاميذ.
عودة مدرسيّة حذرة…
وبعد انقطاع غير مسبوق عن الدراسة دام 6 أشهر وبالتزامن مع فترة حسّاسة شهدت عودة انتشار الوباء بعد أن لامس عتبة الصفر حالة في شهر ماي 2020، عاد التلاميذ إلى مقاعد الدراسة في التاريخ المعهود يوم 15 سبتبمبر وسط مخاوف كبيرة بين صفوف الأولياء وإجراءات استثنائيّة فرضتها الجائحة.
حيث ضبطت الوزارة بالتشاور مع الطرف النقابي روزنامة تقضي بعودة منظوريها (ابتدائي ،إعدادي وثانوي) بصورة تدريجية كما اعتمدت التدريس بنظام الأفواج والمراوحة بينها يوما بيوم (يوم تدريس ويوم راحة) على ألا يتجاوز عدد التلاميذ في القسم الواحد 18 تلميذا، وذلك حرصا على تجنب الاكتظاظ وضمانا للتباعد الجسدي.
وباعتماد هذا التوقيت الأسبوعي الجديد تقلّص الزمن المدرسي إلى حدود النصف ليقتصر على 3 أيام دراسة فقط في الأسبوع مقابل 3 أيام راحة، وهو ما فرض على وزارة التربية التخفيف من البرامج الرسميّة بكافة المراحل وملائمتها مع الزمن المدرسي الجديد “إذ لا يمكن تدريس كلّ ما جاء في البرامج من محتويات بنفس الطرائق والتمشيات المعتمدة في حيّز زمني يبلغ نصف الوقت المخصص لها في ما مضى” وفق ما جاء في بلاغ لها.
وبهدف تدارك ما لم ينجز من البرامج الرسميّة للسنة الدراسيّة 2019-2020، خصّصت وزارة التربية لذلك فترة تنطلق مع مستهل السنة الدراسيّة الجديدة و تتراوح من 4 إلى 6 أسابيع حسب خصوصيّة كلّ قسم.
هذا وقد عملت سلطة الاشراف على تأمين جميع المرافق الراجعة لها بالنظر من مدارس ومعاهد ومبيتات وتعهدت بتوفير المستلزمات الضروريّة لمنع فيروس كورونا من التفشي في الوسط المدرسي.
وقد انخرطت مكونات المجتمع المدني في تنظيم حملات تحسيسيّة في المؤسسات التربوية في ظل افتقار العديد منها إلى الامكانيات الضروريّة لتطبيق البروتوكول الصحّي وهذا ما دفع الفروع الجامعيّة لقطاعات التربية والتعليم بعديد الولايات إلى الضغط المتواصل على المندوبيّات الجهويّة للتربية للإيفاء بتعهداتها في هذا الغرض.
ومع تأزم الوضع الوبائي في كامل البلاد لم يسلم الوسط المدرسي من تفشي فيروس كورونا المستجد وظلّت مؤشرات العدوى فيه تسجّل ارتفاعا مقلقا، وهو ما اضطرّ العديد من المدارس والمعاهد في عديد ولايات الجمهوريّة إلى الغلق بصفة استثنائيّة ومؤقتة بعد انتشار حالات العدوى بين صفوف منتسبيها .
فيما تمّ على صعيد وطني تعليق الدروس في كافة المؤسسات التربوية في مناسبتين، امتدت الفترة الأولى من 28 أكتوبر إلى غاية 8 نوفمبر 2020 وذلك بإضافة وزارة التربية 5 أيام إلى عطلة منتصف الثلاثي الأوّل المبرمجة سلفا خُصصت بالأساس لتعقيم المنشآت التربوية.
وتوقفت الدروس في مناسبة ثانية بقرار من اللجنة الوطنية لمجابهة فيروس كورونا من 14 إلى 24 جانفي 2020 تزامنا مع إقرار حجر صحي عام لمدّة 4 أيام فرضته الحكومة مع جملة من الاجراءات الوقائيّة الأخرى لكسر حلقة العدوى والحدّ من تفشي الوباء.
ومع استحالة استكمال برنامج الثلاثي الثاني فيما بقي من زمن مدرسي وإنجاز الاختبارات في مواعيدها المقررة مسبقا، اتخذت وزارة التربية بالتشاور مع نقابات التعليم في 19 جانفي 2021 مجموعة من القرارات تقضي بدمج الثلاثيتين الثانية والثالثة في فترة تقييميّة واحدة تمتد من 4 جانفي 2021 إلى موفى السنة الدراسيّة.
كما تم الاتفاق على حذف عطلة نصف الثلاثي الثاني التي كانت مبرمجة للفترة من 4 إلى 7 فيفري 2021 مع الإبقاء على عطلة الربيع ( من 15 إلى 24 مارس 2021) في موعدها.
وأمام وضع وبائي فرض انقطاعا متكررا لسير الدروس عملت الوزارة على دعم عمليّة التعلّم وتلافي النقص الحاصل فيها عبر وسائل مختلفة:
حيث أفسحت المجال أمام كافة المربيين لتقديم دروس دعم للتلاميذ بشكل تطوعي ومجاني في المؤسسات التربوية، إضافة إلى إعلانها عن قرب انطلاق القناة التلفزيّة الوطنيّة وفق ما صرّح به وزير التربية لإذاعة “موزاييك” في 2 فيفري الجاري مؤكدا أنه تم الشروع في تسجيل الدروس الموجهة إلى تلاميذ الأقسام النهائيّة.
وبعد حالة من الاستقرار النسبي في نسق تقدّم الدروس واقتراب التلاميذ من نهاية السنة الدراسيّة تصاعد الحديث في الأسابيع الأخيرة عن انطلاق موجة ثالثة من فيروس “كورونا” في ظلّ ارتفاع لعدد الحالات المكتشفة بنسبة 22.9 % وهو ما وصفته اللجنة العلميّة لمجابهة فيروس كورونا “بالوضع الوبائي الخطير” خلال اجتماع لها السبت المنقضي.
وهكذا عادت التساؤلات حول مصير السنة الدراسيّة الحاليّة ومآلاتها المحتملة، وفي هذا الصدد قال الكاتب العامّ لجامعة التعليم الثانوي الأسعد اليعقوبي في تصريح لإذاعة “موزاييك اف ام” يوم الاثنين 5 أفريل الجاري إن السنة الدراسيّة الحاليّة بين” كفي رحى” مطالبا وزارة التربية بضرورة “تقييم الوضع واستشراف ما يمكن أن يحدث في الأيّام القليلة الماضية.” وذلك بالعودة الى التشاور مع كافة الأطراف الاجتماعيّة المتدخلة في الشأن التربوي.
وأكد اليعقوبي أن ايقاف الدروس في المرحلة الحاليّة سيطرح اشكالات عديدة حيث انه من غير الممكن قانونيا انجاح التلاميذ بالاعتماد فقط على ثلاثيّة واحدة. إلا أنّ جميع السيناريوهات المطروحة تبقى قيد الدراسة والتشاور في حال تم إعلان الحجر الصحي العام وتعليق الدراسة فيما تبقى من السنة الدراسيّة.
وانعقدت الاثنين 19 أفريل 2021 جلسة عمل مشتركة بإشراف وزير التربية وبحضور الكاتب العام وعدد من إطارات الوزارة وممثلي الجامعات العامة ونقابات أسلاك التربية، وبعد التداول بالنقاش تم الاتفاق على تكوين لجنتي عمل لإقرار الآليات الكفيلة بإنجاح إنهاء الموسم الدراسي وإجراء الامتحانات الوطنية في أفضل الظروف الملائمة.
ولم تعلن بعد هذه الإجراءات التي فرضها قرار الهيئة الوطنية لمجابهة انتشار فيروس كورونا بتاريخ 17 أفريل 2021، المتمثل في تعليق الدروس بالمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد طيلة الفترة من 18 إلى 30 أفريل 2021.
ويشار، في هذا الصدد، إلى أنّ وزارة التربية تدرج يوميا في صفحتها الرسمية برنامج بث الدروس التّلفزية لتلامذة الأقسام النهائية (بكالوريا ونوفيام).
هذا وقد قام المركز الوطني للتكنولوجيا في التربية التابع لوزارة التربية في موفى شهر جانفي بإطلاق خدمة التواصل البيداغوجي عن بعد لكافة المستويات الدراسيّة تحت عنوان scolarité.education.tn وهي منصّة الكترونيّة أطلقها المركز لتمكين المدرسين من التواصل البيداغوجي مع تلاميذهم عبر تقديم دروس تفاعلية عن بعد أو تكليفهم ببعض الواجبات المدرسية وتمارين للدعم والتدارك.
دروس مبتورة وأوقات فراغ مهدورة…
كلّ هذه الاجراءات الاستثنائيّة التي فُرضت على المنظومة التربويّة في تونس لم تمرّ دون أن تترك أثرها على جميع المتدخلين في الشأن التربوي وخاصة التلميذ.
فقد اتفق جميع علماء النفس والاجتماع أن هذا الحادث المستجد أثّر وبعمق على الصحة النفسيّة للتلميذ بما هو طفل في المقام الأوّل، وجعله يعيش في حالة من الخوف والقلق إزاء عدو مجهول قلب موازين حياته على مدار سنة كاملة وأجبره في فترة ما على المكوث حبيس المنزل تحاصره أخبار المرضى والموتى.
وبعد انقطاع مطوّل عن الدراسة دام 6 أشهر أعقبته عودة مدرسيّة مضطربة ومحفوفة بالمخاوف، تأثرت المكتسبات المعرفيّة للتلاميذ بمختلف أصنافهم وشهد مستواهم التعليمي تراجعا واضحا لمسه أغلب المربين في بداية السنة الدراسيّة الحاليّة.
بإغلاق المدارس يستمرّ الأطفال في تكبّد الآثار المدمرة على تعلمهم وسلامتهم العقليّة والجسديّةروبرت جينكينز المدير العام للتعليم في منظمة اليونيسيف
وفي تصريح لـ”ضاد بوست” تقول سناء وهي معلمّة لمستوى السنة الرابعة بإحدى المدارس الابتدائيّة بريف ولاية القيروان إنّ“فترة الانقطاع الطويلة للتلاميذ أدّت إلى تراجع مستواهم المعرفي بصفة كبيرة خاصة على مستوى اللغات والموّاد العلميّة كالرياضيّات، فقد نسي أغلب التلاميذ حروف اللغة الفرنسيّة التي تعلموها خلال الثلاثيتين الأولى والثانية للسنة الفارطة بالإضافة إلى أنهم حُرموا من دراسة الحروف المتبقيّة بسبب توقف الدروس، وهو ما فرض علينا تدارك هذا النقص خلال الثلاثي الأول لهذه السنة إلاّ أنّ هذه العمليّة كانت صعبة للغاية نظرا إلى كثافة الدروس مقابل ضيق الوقت الذي فرضه نظام الأفواج”.
وبإقرار التوقيت المدرسي الجديد الذي تقلص إلى النصف زاد التباعد بين المتعلّم والمؤسسة التربوية ليجد التلاميذ أنفسهم أمام أوقات فراغ طويلة لم يحسن أغلبهم استثمارها خاصة مع غياب التأطير والرقابة الأسريّة.
وبرصدنا لآراء العديد من الأولياء والإطلاع على زخم التشكيّات التي ضجّت بها صفحات التواصل الاجتماعي تبيّن أن ابتعاد التلميذ عن المدرسة ولّد لديه حالة من الجفاء والتراخي والنفور من الدراسة ودفعه إلى مزيد الإقبال على الهواتف الذكيّة والألعاب الالكترونيّة ومشاهدة محتويات تلفزيّة غير ملائمة لسنه مما أثّر على مهارات التعلّم لديه وانعكس بصفة سلبيّة على نتائج الكثيرين في الثلاثي الأوّل .
وهذا ما فسرّه الدكتور يوسف المرواني الخبير في علم النفس التربوي في تصريح لـ”ضاد بوست” بالعلاقة العضويّة بين الحالة النفسيّة للتلميذ وعمق تأثيرها على العمليّة التعليميّة ككّل ” فالتلميذ الذي يعيش الخوف والقلق بسبب هذه الجائحة سيغدو عاجزا عن استيعاب المعلومة إمّا بصفة مطلقة أو جزئيّة، كما أن التقليص من الزمن المدرسي الذي فرضه نظام الأفواج سينجرّ عنه تأخر في المردود الدراسي ونقص في كم التجارب المعرفية المكتسبة داخل أسوار المدرسة “.
ويضيف محدثنا أن “إقبال الناشئة على الهواتف الذكية والألعاب الالكترونيّة تضاعف بسبب أزمة كورونا وتحوّل إلى إدمان ووسيلة لقتل الوقت خاصة مع عدم وعي الكثير من الأسر بخطر هذا السلوك وفي ظلّ غياب سياسة مجتمعيّة واضحة تؤطر الطفل والمراهق في مثل هذه الأزمات وتساعده على ترشيد أوقات فراغه.”
ولم تستثن جائحة كورونا التلاميذ من ذوي الاحتياجات الخصوصيّة على غرار أولئك الذين يعانون من صعوبات التعلّم أو فرط الحركة أو طيف التوحّد، حيث أثرّت فيهم بصورة أعمق من أقرانهم.
ففي حين يستطيع الطفل الطبيعي التأقلم مع أي وسائل بديلة للتعلم عن بعد فإن الطفل ذو الحاجة الخصوصيّة يفتقر إلى هذه المهارات ويحتاج إلى التواصل المباشر مع مدربيه، وهكذا فإن العزل المنزلي سيزيد حالته النفسيّة سوءً، وفق ما أفادنا به الدكتور يوسف المرواني.
غياب سياسة مجتمعيّة واضحة للإحاطة بالناشئة وقت الأزماتيوسف المرواني
كما تصاعدت المخاوف على صعيد آخر من إمكانيّة تأثير التخفيف في البرامج الدراسيّة على مصداقيّة المناظرات والامتحانات الوطنية (السادسة ابتدائي،”النوفيام” والبكالوريا) ففيما أكدت الوزارة في عدّة مناسبات أنها “حافظت على كلّ ما هو جوهري على مستوى المعارف والمكتسبات حتى لا يتم المساس بالتكوين الأساسي للمتعلمين” وفق تصريح المدير العام للمركز الوطني البيداغوجي رياض بن بوبكر لوكالة تونس افريقيا للأنباء في 23 أكتوبر 2020.
يرى مختصون أنّ هذه العمليّة أضرّت كثيرا بالمعارف الأساسيّة الواجب اكتسابها في كلّ مرحلة من الدراسة وبالتالي فإنها لن تعكس بشكل صادق المستوى الحقيقي للتلميذ عند التقييم، وهذا ما أفاد به رئيس الجمعيّة التونسيّة للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للانباء، موضحا أن التخفيف في المناهج يجب أن يقوم على دراسات علمية، ويراعي التسلسل المدرسي، حتى لا يؤثر سلبا في مكتسبات المتعلمين.
وقد رصد التقييم الذي أجرته وزارة التربية للثلاثي الأوّل من السنة الدراسيّة الحاليّة بداية شهر جانفي المنقضي كلّ هذه الهنات، حيث خلُص إلى أن نظام التدريس بالأفواج أثرّ سلبا في المستوى البيداغوجي ولم يتسنّ معه استكمال البرامج التعليميّة في جلّ المؤسسات التربويّة.
وبتسليط الضوء على المرحلة الاعداديّة والثانويّة نجد أن هذه الاشكالات قد تعمقت أكثر مع تعطّل العمل الاداري اثر الإضراب المفتوح للقييمين الذي انطلق منذ 11 جانفي 2020 ودام لأكثر من 80 يوم ممّا خلق حالة من “الفوضى العارمة” وفاقم مشكل تعطّل الدروس بسبب جائحة كورونا.
وقد حذّر مراقبون للشأن التربوي من الارتفاع المطرّد للغيابات في صفوف التلاميذ بسبب تطور الوضع الوبائي من جهة وتعطّل العمل الإداري في المؤسسات التربوية من جهة أخرى ممّا سيدفع بالتلميذ إلى التوجه إلى فضاءات موازية تفتح له الباب أمام سلوكات منحرفة مثل العنف والإدمان.
الأغنياء يزدادون “علما” والفقراء يزدادون “جهلا”..
لم تنعكس التغيّرات الاستثنائية التي طرأت على المنظومة التربويّة بصورة متساوية بين أبناء الطبقات الميسورة ونظرائهم من أبناء الطبقات المعوزة والمناطق المهمشة، ففيما يتيّسر للتلاميذ المنتمين لأسر غنيّة تعويض النقص المعرفي الحاصل جرّاء تعطل الدروس وملأ أوقات فراغهم بأنشطة هادفة ونافعة عبر مزاولة الدروس الخصوصيّة أو التعلم الذاتي عبر الوسائط الافتراضيّة و ممارسة الهوايات.
يكون ذوي الإمكانيات المادية الضعيفة أقل حظّا من حيث قدرة أوليائهم على تأطيرهم معرفيّا في الأيام التي لا يرتادون فيها المدارس,، وذلك بعجزهم عن تحمّل نفقات الدروس الخصوصيّة وافتقارهم إلى امكانيّة النفاذ إلى الموارد البيداغوجيّة .
كورونا عمّقت الفوارق الاقتصادية والمعرفيّة والنفسيّة بين الأغنياء والفقراء يوسف المرواني
وهكذا “ساهمت كورونا ليس فقط في تعميق الفروق الاقتصادية بل وأيضا في تعميق الفروق المعرفيّة والنفسيّة في تونس ودفعت إلى تظافر العوامل المؤدية إلى الانقطاع المبكّر عن الدراسة حيث تعجز الأسرة ذات الدخل المتدني عن تأمين تعليم أبنائها خاصة مع تكرّر إخفاقهم الدراسي”، وفق ما أفادنا به الدكتور يوسف مرواني.
وكانت تونس قد شهدت بعد الثورة موجة كبيرة من الانقطاع المدرسي حيث تسجل سنويا ما بين 90 و100 ألف منقطع، 40 ألف منهم لا يتمّ إدماجهم في مراكز التكوين المهني وهو ما وصفه وزير التربية فتحي السلاوتي “بالوضعيّة المخيفة” خلال جلسة عامة في البرلمان بتاريخ 8 فيفري 2021.
التعليم عن بعد..أزمة متعددة الأوجه
لم يعد يخفى على أحد أنّ المنظومة التربويّة في تونس تعاني منذ سنوات التسعينات من عدّة هنات ونقائص في جميع ركائزها المعرفيّة والبيداغوجيّة وذلك في ظل فشل محاولات الإصلاح المتتالية، مما انعكس سلبا على مستوى التلميذ التونسي وجعل تونس تتذيّل الترتيب العالمي في مجال التعليم.
65 % من التلاميذ التونسيين لا يجيدون القراءة .. تقرير البنك الدولي حول “جودة التعليم” 2019
وقد بات من الواضح اليوم أن أزمة كورونا وضعتنا وجها لوجه أمام هذا الواقع التربوي المتردّي وكشفت عوراته أكثر فأكثر خاصة عندما عجزت الدولة التونسيّة ممثلة في وزارة التربية عن تفعيل أبرز الخيارات البديلة التي من شأنها الحدّ من أزمة إغلاق المدارس ألا وهي التعلّم عن بعد .
هذه الآليّة الافتراضيّة التي التجأت إليها جلّ بلدان العالم المتحضّر للحفاظ على استمراريّة العمليّة التعليميّة كان من الممكن أن تجنبنا الكثير من التبعات السلبيّة على التعليم التي أسلفنا ذكرها.
ويعود ذلك بالأساس إلى عدم توفر الإمكانيات اللوجستية من تجهيزات ووسائل تكنلوجيّة حديثة، وقصور في نسب الارتباط بشبكة الانترنات خاصة في المناطق الداخليّة مع افتقار مؤسساتنا التربويّة إلى منصات رقميّة تخوّل لها الولوج إلى هذا العالم الافتراضي، هذا إذا ما استثنينا بعض التجارب المحتشمة التي اعتمدتها عدد من المؤسسات التربوية الخاصة.
الحرص على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين كل التلاميذ في الأرياف والمدن والقرى يجعل اللجوء إلى التعلم عن بعد أمرا صعبا فتحى السلاوتي وزير التربية
حيث بينت نتائج استبيان قامت به وزارة التربية على موقعها الرسمي مستهل شهر سبتمبر 2020 وأجاب عنه مليون و900 ألف تلميذ من إجمالي 2 مليون و215 ألف تلميذ في تونس أن 49 %من تلاميذ المرحلة الاعداديّة والتعليم الثانوي لا تتوفر لديهم تجهيزات التعلم عن بعد من كومبيوتر أو لوحات رقمية أو هواتف ذكيّة فيما ترتفع هذه النسبة عند تلاميذ التعليم الابتدائي لتفوق الـ70 % ، إضافة إلى تمتع 40 % فقط من تلاميذ المرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي بخدمات الأنترنات لتنخفض هذه النسبة إلى حدود 27 % بالنسبة لتلاميذ المرحلة الابتدائيّة.
نتائج استبيان وزارة التربية حول التعلم عن بعد (2020 – 2021)
وقد أقرّ وزير التربية فتحي السلاوتي خلال كلمة ألقاها في افتتاح أشغال المنتدى الوطني حول الجمعيات الناشطة في ادماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في التّدريس عن بعد في أكتوبر 2020، بأنّ هناك “نقائص خلال السنة الدراسية الحالية التي تدور في ظروف صعبة بسبب جائحة كورونا رغم اعتماد تونس لنظام التدريس الحضوري في مؤسسات التعليم يوما بيوما ، وإن الحرص على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين كل التلاميذ في الأرياف والمدن والقرى يجعل اللجوء إلى التعلم عن بعد أمرا صعبا.”
وأكدّ السلاوتي أن وزارة التربية اتجهت نحو اعتماد التدريس عبر شاشات التلفزة كأفضل الخيارات المتاحة في الوقت الراهن رغم ما يشهده هذا المشروع من تأخير.
وهكذا يتجلى المشهد التربوي في تونس وسط استمرار حالة القلق والخوف من المستقبل، وتتأكّد بذلك ضرورة تضافر جهود جميع الأطراف من أولياء ومربيين ورجالات دولة والعمل معا لتجاوز هذه الأزمة.
أزمة سيكون لصنّاع القرار فيها الكثير من العبر والدروس لاستخلاصها والبناء عليها حتى تكتسب تونس في المستقبل مناعة دائمة ضدّ أي حادث يهدّد استقرارها.