قرطاج والقصبة يتنازعان السلطة الأمنية
“أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة بجميع تشكيلتها من جيش وقوات أمن الوطني وديوانة”.. فكرة تكررت في خطابات قيس سعيد منذ ليلة 31 ديسمبر 2020 حيث تصاعد الجدل لأوّل مرة بشأن السلطة الأمنية ومن يمتلكها دستوريا قرطاج أم القصبة، ذلك أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد توجّه إلى مقر وزارة الداخلية في زيارة غير معلنة، فأظهر فيديو نشر على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، سعيد يتوسط وزير الداخلية المقال توفيق شرف الدين وعددا من القيادات الأمنية العليا، مؤكداً أنّ ”رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة العسكرية والأمنية”.
وأضاف رئيس الدولة أنّ المؤسسة الأمنية يجب أن تستمرّ بقطع النظر عن الأشخاص، معتبراً أن ”الأشخاص يمرّون، ولكن الدولة يجب أن تبقى، والمؤسسة الأمنية يجب أن تبقى كالمؤسسة العسكرية، وكسائر المرافق العمومية الأخرى، بمنأى عن كل الاعتبارات السياسية”.
وزيارة رئيس الجمهورية قيس سعيد لمقر وزارة الداخلية كانت للسنة الثانية على التوالي، وهي “عادة” غير معهودة لدى رؤساء الجمهورية السابقين، حيث زار الداخلية السنة الفارطة مرفوقا برئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، فيما غاب رئيس الحكومة هشام المشيشي عن هذه الزيارة لتواجده في فرنسا.
وأعاد رئيس الجمهورية طرح نفسه كقائد أعلى لا للقوات العسكرية فقط بل كلّ القوات الحاملة للسلاح، وذلك في خطابه بمناسبة إشرافه على الاحتفال بالذكرى الخامسة والستّين لعيد قوّات الأمن الداخلي في موكب بقصر الرئاسة بقرطاج يوم الأحد 18 أفريل 2021، ليعتبر أنّ الأمن والحرس والديوانة يجب أن تكون تحت سلطته باعتبارها قوّات مسلّحة وأنّه هو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة طبق الدستور دون تخصيص للقوّات العسكريّة فقط.
واعتبر قيس سعيّد أنّ تأويله تحصيل الحاصل دستورا وقانونا وليس مجرّد درس في تأويل القانون الدستوري، بل إنّ سعيد شبّه مخالفيه في هذا التأويل بالإرهابيين.
ذلك أنّ رئيس الجمهورية لدى تناوله الإفطار مع قوات عسكرية وأمنية بمحيط جبل الشعانبي بالقصرين (المنطقة العسكرية المعزولة) مساء يوم السبت 1 ماي 2021، أكّد على حماية الدولة التونسية من كل الانقسامات، وعلى أن القوات المسلحة عسكرية كانت أو أمنية تبقى كلها تحت قيادة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وقال إنّ “الأخطار التي تهدد الدول ليست العمليات الإرهابية التي تقوم بها مجموعات أو من يتخفى وراءها بل إن الخطر الحقيقي هو تقسيم الدولة ومحاولة ضربها من الداخل تحت تأويلات لنصّ دستوري أو نصّ قانوني ظاهره تأويل وباطنه لا يقلّ إرهابا عمن يتحصنون بالجبال ومن يحرّكهم بين الحين والآخر”، وفق تعبيره.
ودوّن الأستاذ عبد اللطيف درباله أنّه “بعد 8 أيّام كاملة من الغياب.. ذهب الرئيس سعيّد اليوم ليتناول الإفطار مع قوّات الأمن والجيش المرابطة في جبل الشعانبي.. ويطلع علينا كعادته بخطاب شعبوي ضحل وعدوانيّ.. فيكرّر على مسامع الأمنيّين إعلان نفسه انّه هو قائدهم الأعلى.. ويساوي بين التأويلات الدستوريّة التي تعارض تأويله للدستور وبين الإرهاب في الشعانبي..!!!!
وقد نسى أو تناسى قيس سعيّد أنّه هو من يحاول خلق الفتنة.. بالسعي لاختراق المنظومة الأمنيّة.. وتأليب الأمنيّين بطريقة ملتوية وخطيرة للانشقاق عن أصحاب السلطة السياسيّة عليهم دستورا.. والدخول تحت “قيادته”.. وذلك بمجرّد تأويل وإعلان أحاديّ منه.. ليس محلّ إجماع.. وغير مسبوق قبل وبعد الثورة..!!”
زيارة رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى جبل الشعانبي فضلا عن الجدل الذي خلفه خطابه، أظهرت خطأ اتصاليا فادحا أقدمت عليه الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية حيث ظهر العسكريون والضباط بوجوه مكشوفة في عشرات الصور صحبة بلاغ رئاسة الجمهورية عن مأدبة الإفطار.
وهو ما تداركته الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية لدى نشرها البلاغ الخاص بالمأدبة التي حضرها رئيس الحكومة المكلف بإدارة شؤون وزارة الداخلية هشام المشيشي في زيارته إلى مقر الوحدة المختصة للحرس الوطني ببئر بورقبة من ولاية نابل.
وتناول رئيس الحكومة الإفطار صحبة الإطارات والأعوان التابعين لها.
وذكر بلاغ لوزارة الداخلية أنّ الزيارة “كانت فرصة اطلع من خلالها على سير العمل بهذه الوحدة، حيث تلقى عرضا حول التجهيزات الحديثة المعتمدة من طرفها في أداء مهامها”.
ودعا المشيشي إطارات هذه الوحدة وأعوانها إلى “مواصلة الاضطلاع بمهامهم الوطنية حفاظا على مناعة التراب الوطني وأمن المواطن من كل أنواع التهديدات الإرهابية والإجرامية”.
تعيينات أمنية “مشبوهة” وإقالة…
وفي ظلّ هذا التنازع يشغل رئيس الحكومة هشام المشيشي حاليا خطة وزير الداخلية بالنيابة وهو في خصومة سياسية ودستورية مع رئيس الجمهورية، أمّا وزير الداخلية المقال فهو توفيق شرف الدين وقد كان من الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية قيس سعيد في حكومة هشام المشيشي قبل أن تتم إقالته من لتجاوز صلاحياته .
وفي الرائد الرسمي الصادر في أفريل 2021، في ورد أمر رئاسي مؤرّخ في 31 مارس 2021، يقضي بتعيّين وزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين رئيسا للهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية برتبة وزير خلفا للعميد توفيق بودربالة، بداية من 1 أفريل الجاري.
كما تمّ بمقتضى أمر رئاسي إنهاء تكليف عميد المحامين توفيق بودربالة من رئاسة الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية بداية من غرّة أفريل 2021.
إلى ذلك، يبدو أنّ وزير الداخلية توفيق شرف الدين اطمأنّ إلى التحذير الذي أطلقه رئيس الدولة بأنّه “قائده المباشر” فـ”استغل” غياب رئيس الحكومة هشام المشيشي (في زيارة عائليّة إلى فرنسا)، وأجرى عددا كبيرا من التعيينات الأمنية العليا دون الرجوع إلى رئيس حكومته، وفق ما أعلنه المشيشي في تصريح إعلاميّ يوم الأربعاء 10 جانفي الجاري، مؤكدا أنّ إقالة شرف الدين، تندرج في إطار حماية المؤسسة الأمنية من الإرباك وإمكانية اختراقها، واحترام إطارات الوزارة وقيادتها، والحفاظ على تماسك البناء الأمني، إثر صدور عدد كبير من التعيينات والإعفاءات، دون الرجوع إلى رئيس الحكومة”.
وبين المشيشي، في تصريح إعلامي، إثر اجتماع عقده بمقر وزارة الداخلية مع قادة الأسلاك الأمنية والمديرين العامين، أنه تم إلغاء كل برقيات التعيين والإعفاء التي صدرت دون علمه وعلم الإطارات الأمنية العليا، قائلا “لن نسمح بإرباك المؤسسة الأمنية”.
وفي وقت سابق مساء 5 جانفي 2021، أعلنت رئاسة الحكومة أنّ رئيس الحكومة هشام المشيشي قرّر إعفاء توفيق شرف الدين وزير الداخلية من مهامه، وأنّ رئيس الحكومة سيتولى الإشراف على وزارة الداخلية بالنيابة في انتظار تعيين وزير داخلية جديد.
وفي الليلة الموالية أي مساء 6 جانفي 2021، أشرف رئيس الحكومة هشام المشيشي بمقر وزارة الداخلية على اجتماع مع قادة الأسلاك الأمنية والمديرين العاميين، مؤكدا أن الوزارة تعتبر صرحا من صروح النضال والوطنية واحترام القانون وإنفاذه.
وعاين رئيس الحكومة إثر ذلك تقدم أشغال تهيئة قاعة العمليات المركزية الجديدة، مثمنا تقدم الأشغال بنسق حثيث، خصوصا أنها ستمثل نقلة نوعية في العمل الأمني، بفضل التجهيزات المتطورة التي وقع تركيزها.
وهي نفس “المعاينة” التي آتاها رئيس الجمهورية قيس سعيد ليلة رأس السنة.
ومساء 7 جانفي 2021، أشرف رئيس الحكومة هشام المشيشي بمقر الإدارة العامة لوحدات التدخل ببوشوشة، على موكب تسلم الدفعة الأولى من وسائل تدخل جديدة مخصّصة لمكافحة الإرهاب وحفظ الأمن والنظام ومقاومة الجريمة.
وصرّح المشيشي أن توفير هذه المعدات الجديدة يأتي في إطار حرص الحكومة على توفير كل الإمكانيات اللازمة من أجل الرفع من أداء القوات الأمنية وتوفير أفضل الظروف لتأدية واجبهم وحمايتهم والحرص على سلامتهم.
زيارات متتالية طغى عليها الطابع الاستعراضي المؤكّد على أنّ رئاسة الحكومة هي صاحبة السلطة على الجهاز الأمنيّ، والمطالبة “دستوريا” بتوفير حاجيات مختلف الأسلاك الأمنية.
وآخرها كان أن أدى رئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم 2 فيفري 2021 زيارة إلى وزارة الداخلية حيث عقد جلسة بحضور وزير الداخلية بالنيابة ورئيس الحكومة هشام مشيشي ومدير عام الأمن الوطني وآمر الحرس الوطني ومدير عام وحدات التدخل وكاتب عام الوزارة، رئيس الديوان بالنيابة.
وذكر بلاغ لرئاسة الجمهورية، أنّ سعيّد بيّن أن الدولة موجودة والحريات مضمونة وليس هناك علاقة عداء بين الأمنيين والمواطنين. وأضاف أنّه “لا يقبل أن يتم ضرب المؤسسة الأمنية كما لا يقبل بضرب الحريات”.
وحسب البلاغ، تناول اللقاء مع القيادات الأمنية ضرورة توحيد العمل النقابي وذلك بإنشاء اتحاد عام لقوات الأمن الداخلي تكون له هياكل ممثلة عن طريق الانتخاب.
وهي زيارة أتت قبل يوم واحد من المهلة الدستورية التي أتيحت لرئيس الجمهورية لقبول وزراء المشيشي الذين صادق البرلمان على إضافتهم إلى الحكومة دون موافقة سعيد ومن بينهم وزير الداخلية.
تنازع دستوري وهمي !!!
إذا صراع علنيّ حول اليد التي تمسك بالصلاحيات الدستورية لبسط نفوذها على المؤسسة الأمنية، اعتبره المراقبون أنّه وهميّ، فالدستور حسم في صلاحيات كلّ من رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ولا تداخل بينهما.
وفي تصريح لموقع “ضاد” يقول المقرر العام لدستور سنة 2014 الأستاذ الحبيب خضر إنّ “النظر في أي مسألة متصلة بالنص الدستوري يقتضي من صاحبه استحضار أحكام الفصل 146 من الدستور الذي قرر أنه “تًفسّر أحكام الدستور ويُؤوّل بعضها البعض كوحدة منسجمة”. فكل اجتزاء من النص الدستوري وتعامل معه بمعزل عن بقية النص يفضي بصاحبه في الغالب إلى انحراف في الفهم حتى وإن كانت همته منصرفة فعلا إلى البحث عن الفهم الأصوب”.
الفصل 146 من دستور الجمهورية التونسية
وينص الفصل 77 من الدستور على أن “يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة”.
الفصل 77 من دستور الجمهورية التونسية
ويتولى رئيس الجمهورية رئاسة مجلس الأمن القومي ويُدعى إليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، والقيادة العليا للقوات المسلحة، وإعلان الحرب وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه، وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيسيْ مجلس نواب الشعب والحكومة واتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية.
لكن تكرار سعيّد بأنه القائد للقوتين معاً يحمل فهماً جديداً لتوزيع السلطات الأمنية بين الرئاسات، فأثار هذا اللغط والبحث في مفهوم القوات المسلحة الذي ذكره الدستور.
وفي هذا الصدد أوضح خضر أنّ “الخيار التأسيسي في مشروع الدستور وبعض ما سبقه من وثائق تمهيدية بعدم التنصيص على قيادة رئيس الجمهورية لقوات الأمن لم يكن لكونها مستوعبة في القوات المسلحة وإنما حصرا للقيادة العليا لرئيس الجمهورية في القوات المسلحة التي ترادف الجيش بمختلف تشكيلاته”.
وقد ظهر فعلا هذا الجدال بين من ذهب إلى أنها تشمل الجيش الوطني والأمن الوطني على حد سواء، بينما استند آخرون إلى ما نصّ عليه الفصل 17 القائل “تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلحة، وقوات الأمن الداخلي، ويكون ذلك بمقتضى القانون ولخدمة الصالح العام”، وهو ما يعني بوضوح أن عبارة القوات المسلحة تشمل الجيش الوطني دون سواه.
الفصل 17 من دستور الجمهورية التونسية
بينما أفرد الفصل 19 الأمن الوطني بتعريف خاص فنصّ على أنّ “الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ.”
الفصل 18 من دستور الجمهورية التونسية
وإنّ هذا الفصل بين عبارات “القوات المسلحة” و”الأمن الداخلي” أو “الأمن الوطني”، يحيلنا على أنّ عبارة “القوات المسلحة” المشار إلى قيادة رئيس الجمهورية لها هي حصرا “الجيش الوطني” وليس جميع القوات الحاملة للسلاح التي أراد رئيس الجمهورية قيس سعيد وداعموه “ضمها” إلى قرطاج.
الفصل 19 من دستور الجمهورية التونسية
وفي تصريح لقناة “نسمة” مساء يوم 8 جانفي 2021 أكد رئيس كتلة حركة النهضة بمجلس نواب الشعب، نور الدين البحيري، أن الدستور واضح في ضبط صلاحيات كل طرف من رئيسي الجمهورية ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب.
وأضاف البحيري أن كل أساتذة القانون الدستوري لا يقرون بوجود لبس في تداخل الصلاحيات في الدستور، مضيفا أن القائد الأعلى للقوات المسلحة، هو رئيس الجمهورية، وهو الساهر على تنفيذ السياسات الخارجية للدولة، مشيرا إلى أن قوات الأمن الداخلي من الصلاحيات المطلقة والحصرية لرئيس الحكومة، ولا حاجة لاستشارة رئيس الجمهورية في تعيين رئيس الداخلية أو إعفائه.
وأدلى شقيق رئيس الجمهورية، الأستاذ نوفل سعيد بدلوه في هذا الجدل المتصاعد داعما ما ذهب إليه شقيقه حيث اعتبر أنّ رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات الأمنية والعسكرية معا.
رابط تدوينة نوفل سعيد شقيق رئيس الجمهورية
وقال نوفل سعيد، في تدوينة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “فايس بوك”، إنّ المشرع الدستوري التونسي قد اعتبر في نهاية المطاف وحسب الصيغية النهائية للفصل 77 من الدستور أنّ قوات الأمن الوطني بجميع فروعها تدخل في خانة واحدة هي خانة القوات المسلحة ولا مجال و لا حاجة إلى التفريق يبنها وبين مختلف الجيوش.
وأشار إلى أنه في غياب التنصيص الصريح من قبل المشرع الدستوري على جهة مغايرة أخرى بخلاف رئيس الجمهورية فإنه لا يمكن أن نتصور أن تبقى قوات الأمن الوطني بدون “قيادة عليا”، مضيفا “وهو ما يرجح التأويل القائل بأنّ رئيس الجمهورية هو أيضا القائد الأعلى لا فقط للجيوش بل أيضا لقوات الأمن الوطني”.
وتساءل شقيق الرئيس ”كيف يمكن أن لا يكون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى لقوات الأمن الوطني بالإضافة إلى القيادة العليا لمختلف الجيوش وهو الذي يترأس مجلس الأمن القومي”.
واعتبر الأستاذ الحبيب خضر أنّهذا التأويلالقائل باستيعاب الأمن ضمن القوات المسلحة بحكم عدم استعمال عبارة الجيش تعسف على نصّ الدستور ذلك أنّه “يجدر التنبيه أولا للخطورة البالغة لهذا التأويل المتعسف، فهو سيجعل رئيس الجمهورية أيضا قائدا أعلى للديوانة التونسية (أو ليست مسلحة) وأعوان السجون (أو ليسوا مسلحين) وربما حتى حرس الغابات، لكن يكفي في هذا السياق طرح السؤال على من تبنى هذا الفهم وذلك بخصوص الفصل 17 من الدستور الذي أورد القوات المسلحة والأمن منفصلين عن بعضهما. إن اعتماد العبارتين يؤكد أن الدستور لم يختر أن تكون عبارة “القوات المسلحة” شاملة لكل من حمل السلاح”.
صراع سياسي سلطوي..
وينصّ الفصل 92 من الدستور على أن “يختص رئيس الحكومة بـ:
الفصل 92 من دستور الجمهورية التونسية
- إحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء،
- إقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البت في استقالته، وذلك بالتشاور مع رئيس الجمهورية إذا تعلق الأمر بوزير الخارجية أو وزير الدفاع،
- إحداث أو تعديل أو حذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء، باستثناء الراجعة إلى رئاسة الجمهورية فيكون إحداثها أو تعديلها أو حذفها باقتراح من رئيس الجمهورية،
- إجراء التعيينات والإعفاءات في الوظائف المدنية العليا. وتضبط الوظائف المدنية العليا بقانون.
ويعلم رئيسُ الحكومة رئيسَ الجمهورية بالقرارات المتخذة في إطار اختصاصاته المذكورة.
يتصرف رئيس الحكومة في الإدارة، ويبرم الاتفاقيات الدولية ذات الصبغة الفنية.
وتسهر الحكومة على تنفيذ القوانين. ويمكن لرئيس الحكومة أن يفوض بعض صلاحياته للوزراء.
إذا تعذر على رئيس الحكومة ممارسة مهامه بصفة وقتية، يفوض سلطاته إلى أحد الوزراء”.
وإنّ إقالة وزير الداخلية أكّدت هذه السلطة التي يتمتع بها رئيس الحكومة باعتباره يعيّن ويعفي وزير الداخلية دون الرجوع إلى رئاسة الجمهورية أو التشاور معه، بل إنّ التعيينات في الوظائف الأمنية العليا لا تتم إلا باستشارته وموافقته دون الرجوع إلى رئيس الجمهورية.
ومساء يوم 8 جانفي 2021، استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيد بقصر قرطاج رئيس الحكومة هشام المشيشي، حيث أكّدا على أن الدولة واحدة ومؤسساتها تعمل وفق القانون وفي تكامل.
وأفاد الأستاذ الحبيب خضر أنّ الفصل 92 من الدستور قد أوجب على رئيس الحكومة إعلام رئيس الجمهورية بما يتخذه من قرارات في إطار صلاحياته المنصوص عليها بالفصل 92 من الدستور ومنها التعيينات في الوظائف المدنية العليا. ولكن الفصل 78 من الدستور فرض على رئيس الجمهورية أن لا يجري التعيينات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتصلة بالأمن القومي إلا بعد “استشارة رئيس الحكومة”. فالإعلام الأول للإخبار بعد اتخاذ القرار وأما الثاني فهو للمشورة وطلب الرأي بما يفضي للمشاركة بدرجة ما في القرار قبل اتخاذه.
إذا فقد ضبط دستور 2014 صلاحيات الرئاسات الثلاث ولم يتداخل أيّ منهما، لكنّ التنازع الذي يطفو بين الفينة والأخرى، انطلاقا من حادثة تسليم البغدادي المحمودي مرورا بصراع الباجي قائد السبسي والشاهد وصولا إلى الحرب الباردة بين المشيشي وسعيد، لا يعدو أن يكون إلاّ صراعا سياسيا أراد مروّجوه أن يكون “دستوريا” فذهب أكثرهم تطرفا إلى وجوب تغيير الدستور برمته وإعادة النظام الرئاسي المطلق لا لغاية دستورية قانونية بل لغاية سياسية سلطوية بحتة علها تعيد “أمجاد” الرئيس الدكتاتور.
ووفق المقرر العام للدستور فقد اختار المؤسسون للدستور أن يكون “أداة للقطع مع مخاطر الانتكاس نحو الاستبداد والتفرد بالسلطة، ولأن ذلك الانحراف عادة ما يبحث له عن سند في القوات الحاملة للسلاح لفرض الخيارات المنحرفة على الشعب التواق بطبعه للحرية فقد كان هناك حرص على تحقيق توزيع ضامن ولو نسبيا لعدم الانحراف.
ولهذا كان رئيس الجمهورية وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة كما هو المسؤول الأول على العلاقات الخارجية صاحب رأي في أشخاص من يتولى وزارة الدفاع ووزارة الخارجية، ولم يمنحه الدستور حقا مماثلا بالنسبة لوزارة الداخلية وهذا لم يكن اعتباطيا”.
واعتبر محدثنا أنّ النظام السياسي الذي تبناه الدستور يقوم على ثنائية غير متوازنة في السلطة التنفيذية ترجح فيها كفة رئيس الحكومة في مقابل رئيس الجمهورية، في حين يتقدم رئيسُ الجمهورية رئيسَ الحكومة في الرمزية وتمثيل الدولة، والأسلم أن يتقبل الجميع هذه الحقيقة طالما لم يتم تغييرها. ولا يمكن تغييرها في غياب المحكمة الدستورية.
والمحكمة الدستورية هي المختصة بالبت في مثل هذه الخلافات المتصلة بصلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ولذا يكون أسلم وأحفظ لديمقراطيتنا الناشئة التسريع بتركيز المحكمة الدستورية والخطوة الأولى لذلك أن يستكمل المجلس انتخاب حصته من أعضائها”.