حي الشيخ جراح.. قلب القدس يقاوم تهويدها

بكل لغات العالم “#انقذوا_حي_الشيخ_جراح” نداء تصدر مواقع التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم وبكل لغاته، تزامنا مع المواجهات التي استجدت في القدس المحتلة منذ بداية شهر مارس المنقضي، وصولا إلى احتدامها وسقوط مئات الجرحى وعشرات الشهداء الفلسطينيين بعد اقتحام المسجد الأقصى من طرف جنود الاحتلال الصهيوني.

فجر يوم 11 ماي 2021، انسحبت قوات الاحتلال من الأقصى لتكثف هجماتها ضدّ قطاع غزة المحاصر، فقصفته جوا وبحرا مما أسفر عن المزيد من الشهداء، فيما أصيب 6 إسرائيليين في مدينة عسقلان بصواريخ كتائب القسام.

ويأتي هذا الانسحاب بعد ليالي من المواجهات بين المقدسين العزل وجنود الاحتلال الصهيوني بالرصاص الحي والرش بمياه الصرف الصحي، ذلك أنّ ذكرى احتفال المستوطنين بـ”توحيد القدس” تزامنت هذه السنة مع ليلة 28 من رمضان واعتكاف الآلاف من المقدسيين في المسجد الأقصى.

وكانت فصائل المقاومة أعلنت أنها أطلقت 100 صاروخ باتجاه إسرائيل، بما في ذلك 7 على مدينة القدس، واستهدفت بقية الصواريخ عسقلان وسديروت ومستوطنات بمنطقة غلاف غزة، وقال أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام إنه إذا لم يفك العدو الحصار عن المرابطين المعتكفين بالمسجد الأقصى فلينتظر رد المقاومة.

وربطت الفصائل الفلسطينية وقف إطلاق الصواريخ بتأكيدات وشهادات من المسجد الأقصى بتوقف جميع الاعتداءات الإسرائيلية، وفق ما نقلته قناة “الجزيرة”.

وصباح يوم الأربعاء 12 ماي 2012، قتل جندي صهيوني في عملية قصف صاروخي نفذتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) شمالي قطاع غزة، وعلى الجانب الآخر استشهد 5 فلسطينيين جراء قصف جوي إسرائيلي لمناطق شمال وجنوب القطاع.

وقالت كتائب القسام -في بيان مقتضب- إنها استهدفت مركبة عسكرية إسرائيلية شمالي قطاع غزة بصاروخ موجه شمالي القطاع، وأوردت وسائل إعلام إسرائيلية أن أحد العسكريين قتل في استهداف المركبة، وذكرت هيئة البث الإسرائيلية (رسمية) أن الاستهداف خلف 3 إصابات خطيرة بصاروخ مضاد للدروع أطلق من شمال غزة باتجاه الأراضي الإسرائيلية، ووصفت الهيئة عبر موقعها حالة اثنين من المصابين بالخطيرة جدا، والإصابة الثالثة بالخطيرة.

ومساء يوم 11 ماي أمطرت كتائب القسام تل أبيب بوابل من 130 صاروخا خلف 5 قتلى إسرائيليين، ردا على استهداف الطيران الإسرائيلي الأبراج السكنية في قطاع غزة، وأكدت أن هذه الضربة الصاروخية هي أكبر عملية قصف تشنها المقاومة على تل أبيب.

كما أوضحت أنها قصفت عدة أهداف بينها مطار بن غوريون.

إذا فالاحتلال يستهدف القدس، فلماذا نتحدث عن حي الشيخ جراح، ما أهميته؟ وتاريخه؟ ومسيرته في مقاومة الآلة الصهيونية لتهويد القدس؟

مالك الأرض “أجير”

يعد حي الشيخ جراح وسط القدس نموذجا على إصرار الاحتلال الصهيوني على تحقيق ما يسمى بالحسم الديمغرافي لصالح اليهود، حيث تتسارع وتيرة عمليات الهدم والإخلاء لمنازل الفلسطينيين.

تعود جذور قضية حي كرم الجاعوني بالشيخ جراح إلى خمسينيات القرن الماضي عندما تم بناء وحدات سكنية لـ 28 عائلة لاجئة من أراضي عام 1948، بعد تهجير الأهالي قسرا من مدن وأحياء في الداخل المحتل، وقررت الحكومة الأردنية بالتعاون مع الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) توطينهم في القدس مقابل تخليهم عن حقوقهم كلاجئين.

وتعود تسمية الحي بالشيخ جراح نسبة إلى طبيب صلاح الدين الأيوبي المدفون في مقام داخل مسجد بالحي، فهو الحيّ الذي عاش ودفن فيه الشيخ حسام الدين الجرّاحي طبيب صلاح الدين الأيوبي قبل 900 عام تقريبًا.

ذلك أنّ حي الشيخ حراج بُني من قِبل الأمم المتحدة كمأوى للاجئين الفلسطينيين، بالتعاون مع وزارة التعمير والإنشاء الأردنية بين عامي 1954 و1959، وتم اختيار العائلات التي بنيت لها وحدات سكنية في كرم الجاعوني وتعاقدت الأردن مع المواطنين على دفع إيجارات لمدة 3 أعوام لتصبح المنازل بعدها ملكا لهم، وانتهت عقود الإيجار عام 1959، وبات المواطنون يتصرفون تصرف المالك في العقارات.

وبدأت قضية حي الشيخ جراح عام 1972 عندما حاولت جمعيات استيطانية ادعاء ملكيتها للحي فبعد احتلال القدس عام 1967 وضم شطرها الشرقي للسيطرة الصهيونية، فوجئ السكان بلجنتين يهوديتين تتوجهان إلى دائرة الأراضي عام 1972، وتسجلان ملكيتهما لهذه الأرض التي تبلغ مساحتها نحو 18 دونما (الدونم ألف متر).

وبدأت اللجان اليهودية تطالب الأهالي بإخلاء عقاراتهم بإدعاء أنه لا حق لهم في ملكيتها، وهكذا تفرعت عشرات القضايا في المحاكم الإسرائيلية المنحازة إلى المستوطنين الذين يقولون إن هذه المنازل أقيمت على أرض امتلكها يهود قبل عام 1876.

ووصلت أوامر لإخلاء منازلهم إلى 160 فردا في الحي بينهم 46 طفلا، وينتمي هؤلاء إلى 12 عائلة مختلفة، وتعيش 28 عائلة ممتدة لاجئة على مساحة 18 دونما في “كرم الجاعوني” بالشيخ جراح ويبلغ عددهم 600 فرد.

وتتجلى أهمية حي الشيخ جراح في تموقعه في قلب مدينة القدس وبتحوله إلى مستوطنة يهودية، ستتكبل حركة التنقل من جنوب القدس إلى شمالها. وتطمح إسرائيل إلى بناء حي استيطاني من 200 وحدة بعد هدم منازل فلسطيني حي الشيخ جراح.

اقتحام وصمود

بدأت المجموعات اليمينية المتطرفة مخطط اقتحام المسجد الأقصى وفقًا لما يسمونه يوم “توحيد القدس” وهو احتفال إسرائيلي سنوي بالسيطرة على القدس الشرقية في حرب عام 1967. وقد تزامن هذه السنة مع يوم 28 رمضان، وهو مسار صهيوني مسبق يسعى إلى تقسيم المسجد وفرض مزيد من الاستيطان في قلب المدينة المقدسة، وتصوير الأمر على أنه اختلاف عقائدي يُحلّ بتشاطر الحرم القدسي.

فالكيان الصهيوني يعتبر القدس بكاملها، بما في ذلك الجزء الشرقي منها، عاصمته “الموحدة”، في حين يتمسك الفلسطينيون بجعل القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية التي يناضلون من أجل تحريرها من الكيان الصهيوني، ولم يعترف المجتمع الدولي بضمّ “إسرائيل” للقدس الشرقية.

ذلك أنّه سنويا، يتوافد مئات المستوطنين على البلدة القديمة في القدس المحتلة للمشاركة في مسيرة “رقصة الأعلام”، ليصل أوج الاحتفالات نهاية النهار مع مشاركة عشرات آلاف المستوطنين في المسيرة، التي يتخللها ترديد شعارات معادية للإسلام والعرب، بالإضافة إلى قيامهم بأعمال العربدة والاستفزاز لسكان وتجار البلدة القديمة الذين تسلمهم الشرطة الصهيونية كل عام أمرا بإغلاق محلاتهم التجارية لإخلاء مسؤوليتها عن أي أضرار.

وتمنع الشرطة في ذلك اليوم 35 ألف مقدسي يعيشون داخل أسوار البلدة القديمة من التحرك من وإلى منازلهم.

هذه السنة، مع وصول الجماعات اليمينية المتطرفة في الانتخابات الأخيرة للكنيست إلى 7 مقاعد، إضافة إلى وجود 10 مقاعد أخرى للمؤيدين لها من الأحزاب الأخرى؛ أصبحت لديها قوة كبيرة في الكنيست تتمثل في 17 مقعدا.

وقال عبد الله معروف أستاذ دراسات بيت المقدس في جامعة “إسطنبول 29 مايو” ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة في المسجد الأقصى سابقا، في تصريح لموقع “الجزيرة نت”، إن هذه الجماعات رأت أن الاحتفال بيوم “توحيد القدس” هذا العام يعد مفصليا وفرصة ذهبية لا تعوض لفرض رؤيتها على القدس، وتنفيذ ما لم تستطع الحكومات الإسرائيلية على مدار سنوات الصراع الطويلة تنفيذه في القدس.

وأضاف معروف في حديثه للجزيرة نت أن هذه الجماعات أرادت اقتحاما مختلفا للأقصى هذا العام يترافق مع تغيير كامل للأمر الواقع فيه من خلال فرض حق الصلاة العلنية الجماعية لليهود.

“يريدون تثبيت معادلة جديدة في الأقصى عنوانها تفوُّق الاعتبار اليهودي على الإسلامي في مسألة الحقوق الدينية والحضور في الأقصى، لتثبيت واقع جديد عنوانه أن الأقصى مقدس يهودي أولا”.

في المقابل، انتفض المقدسيون أمام إجراء الاحتلال الصهيوني بمنع وجودهم عند باب العامود بمدينة القدس مع بداية شهر رمضان، وتصدوا على مدار أسبوعين لشرطة الاحتلال ومحاولاتها فرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.

وأمام ذلك الصمود، اقتحمت قوات الاحتلال المسجد الأقصى لكسر صمود المرابطين وتيسير الأمور أمام المجموعات اليمينية المتطرفة، وكل ذلك يجري بموازاة الاستمرار في السعي نحو تهجير سكان حي الشيخ جراح، واحتلال منازلهم.

كذلك، رفضت العائلات الفلسطينية المهددة بالإجلاء من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة -مع انتهاء المهلة الممنوحة من المحكمة الإسرائيلية العليا- أي تسوية تتضمن نزع حقها في ملكية البيوت واعترافا بحق المستوطنين فيها.

خاصة أنّ المحكمة قالت إنّه على سكان الشيخ جراح إيجاد آلية لدفع بدل إيجار للمستوطنين بأثر رجعي، ومواصلة دفع الإيجار إلى أن يتوفى رب المنزل الفلسطيني، بحيث لا ينتقل الإيجار لأولاده.

ويأتي الرد الإسرائيلي بأن الأمر غير قابل للنقاش مع إجراءات عقابية لمن يمتنع عن التنفيذ، حيث تصل الغرامة المالية إلى نحو 50 ألف دولار.

وأدى نحو 90 ألف مصل صلاة التراويح والتهجد في ليلة الـ27 من رمضان داخل حرم المسجد الأقصى، في مواجهة اعتداءات يومية من طرف قوات الاحتلال الصهيوني منذ بداية شهر رمضان خاصة في منطقة باب العامود وحي الشيخ جراح.

وفشل “الاقتحام الكبير” الذي أعدت له الجماعات الصهيونية المتطرفة، رغم اقتحام المسجد الأقصى بهدف ترويع المصلين وتفريغه منهم لتهيئة المكان لاقتحامات المتطرفين.

مسار لتهويد القدس

لا تسعى الجمعيات الاستيطانية إلى إجلاء أهالي حي كرم الجاعوني فحسب، بل تنشط في البلدة القديمة وبلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، وتستخدم للسيطرة على مزيد من العقارات في القدس عدة قوانين أبرزها: قانون حارس أملاك الغائبين والمصلحة العامة والأملاك اليهودية قبل عام 1948.

وفي حي بطن الهوى في بلدة سلوان بدأ التغلغل الاستيطاني عام 2004 ببؤرتين استيطانيتين ثم تصاعد عام 2014 ليصل عدد البؤر الآن إلى 6، وتتراوح البؤرة بين غرفة وبناية، وتعيش بين المقدسيين في هذا الحي حتى الآن 23 عائلة من المستوطنين، ووصل عدد أوامر إخلاء المنازل فيه إلى أكثر من 87 أمرا.

وفي تصريح أدلى به إلى “قناة الجزيرة” يشير خبير الاستيطان ومدير مركز الخرائط للدراسات العربية بالقدس خليل التفكجي إلى أن إسرائيل تتبع سياسة بدأتها منذ احتلالها عام 1967 تصبح بواسطتها القدس عام 2020 خالية من السكان العرب.

وقال التفكجي للجزيرة نت إن مخطط إسرائيلي أعلنه رئيس بلدية القدس المتطرف نير بركات يقضي بهدم 7000 منزل داخل القدس، ومصادرة الأراضي وسحب الهويات، وتقليص نسبة العرب القدس إلى 12% من أصل 35%.

وقال إن هذه الإجراءات تأتي لإفراغ القدس من سكانها العرب وتحقيق مشروعهم بأن القدس يهودية وعاصمة حضارية لهم، وأضاف أن إسرائيل ومنذ العام 1994 حتى أفريل 2009 دمرت 868 منزلا، وتخرج ألف مقدسي سنويا وذلك بسحب هويتهم، وأن الجدار عزل 125 ألف فلسطيني خارج مدينتهم.

ووفقا لبيانات صدرت عن عدة مؤسسات حقوقية في القدس عام 2017 ونقلها موقع “الجزيرة نت”، فإن 78.4% من مخالفات البناء حدثت في غربي القدس، خضع 27% منها لأوامر هدم، فيما 21.5% من مخالفات البناء حدثت في شرقي المدينة، وخضع 84% منها لأوامر هدم.

وتمنح البلدية 93% من رخص البناء لليهود و7% فقط للفلسطينيين في المدينة، وبينما يعيش 210 آلاف مستوطن في 15 مستوطنة غير شرعية في القدس يعاني المقدسيون من نقص في الوحدات السكنية بنحو 43 ألف وحدة، وهناك 60 ألفا منهم معرضون لخطر هدم منازلهم.

وتأتي هذه المعطيات بعد مرور 5 عقود ونصف على بدء احتفال العالم بتاريخ 21 مارس من كل عام باليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري الذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966.

وضمت إسرائيل القدس الشرقية بعد حرب عام 1967، في خطوة لم يعترف بها دوليا. ويعيش نحو 200 ألف يهودي فيها الآن إلى جانب نحو 250 ألف فلسطيني.